على قاعدة الرابح والخاسر يمكن قراءة التوازنات السياسية في مجلس الوزراء الجديد، والتي لا تشكل نتيجة للكباش الحاصل منذ أكثر من شهرين وحسب، بل نتيجة إنعكاس للتطورات الإقليمية المتسارعة وكمدخل لقراءة الآتي في المرحلة المقبلة على المستويات كافة.
تبعد التركيبة الحكومية الحالية كل البعد عن البساطة والعفوية، بل ترتبط بتوازنات دقيقة ستصيغ التسوية المقبلة في لبنان بين الفريقين التقليديين، 8 و14 آذار، وبين حلفاء الصفّ الواحد المقربين من “حزب الله”.
في الصورة العامة، حقق فريق حلفاء إيران تقدماً سياسياً على خصومهم، من خلال عدم الخضوع للهدف الأميركي المباشر، أي إخراج “حزب الله” من السلطة التنفيذية، إذ بقي الحزب في الحكومة في حين خرج منها الحريري ومكونات 14 آذار، لكن النظر إلى لوحة السلطة ليست بهذه البساطة، إذ من الممكن إكتشاف الكثير من الرابحين وأكثر من الخاسرين عند الدخول في التفاصيل.
لعل النقطة الاساسية التي حققها فريق الثامن من آذار عبر تأليفه حكومته هي أنه بات قادراً على التفاوض مباشرةً تمهيداً للتسوية المقبلة التي ستكون مدخلاً حقيقياً للإنقاذ ولإعادة رسم التوزانات السياسية في لبنان، إذ إنه يمتلك اليوم في حكومة اللون الواحد قدرة أكبر على المناورة ورفع السقوف وخفضها.
في التفاصيل، يظهر “التيار الوطني الحرّ” ورئيسه جبران باسيل المنتصر الأكبر في الشكل، إذ إستطاع تكتل “لبنان القوي” الحصول على 9 وزراء كاملين، أي ما يقارب النصف، وحصل على الثلث المعطل مع الطاشناق من دون الحاجة للتحالف مع رئيس الحزب الديمقراطي النائب طلال إرسلان.
كذلك حقق “التيار” إنتصاراً آخر في الشكل، وهي من نوع الإنتصارات التي يحبها باسيل، إذ كرس نظريته في الميثاقية وحقق التوازن التمثيلي بين عدد النواب وعدد الوزراء وهو ما حارب لأجلها في الحكومات السابقة.
لكن الأهم هو ضمان باسيل قدرته على التعطيل في القرارات المصيرية من خلال الثلث المعطل الذي حصل عليه، وتالياً لا قانون إنتخابي من دون موافقته ورضاه، ولا تعيينات فئة أولى من دونه، كما بات قادراً على إقالة الحكومة دستورياً عبر الإستقالة منها مثله مثل رئيسها، كل ذلك تحسباً لأن يطول عمر الحكومة إلى ما بعد الإنتخابات النيابية وإلى ما بعدها تصريفاً للأعمال وصولاً إلى الإنتخابات الرئاسية.
الرابح الثاني كان الثنائي الشيعي، إذ كرس ما بدأه في الحكومة الأخيرة، أنه أحد العوامل الأساسية في التأليف وأن المكون السني والماروني لا يتفردا بهذه العملية الدستورية، فبعدما كان “حزب الله” قد عطل الحكومة السابقة لفرض شرط توزير شخصية سنية قريبة منه، إستطاع اليوم، وبالرغم من مناورة حلفائه، فرض كلمته في اللحظة الحاسمة عبر التلويح بسحب يده من التأليف، الأمر الذي ظهّر نفوذ “حزب الله” والرئيس برّي.
وإستطاع “حزب الله” إظهار قدرته على الإمساك بزمام المبادرة، ففي حين ذهب مكرهاً إلى حكومة لون واحد، إستطاع إختيار رئيسها وتسمية وزير واحد فقط قريب منه هو وزير الصحة، أما الوزير الثاني الذي سماه الحزب فهو في الواقع قريب إلى عين التينة أكثر ويحمل الجنسية الأميركية وعمل في الإمارات، موصلاً رسائل إلى من يعنيهم الأمر بأنه لا يزال يحفظ ويحترم التوازنات اللبنانية، الدولية تحديداً.
كذلك وجه الرئيس نبيه برّي رسالة شديدة وواضحة عبر وصوله إلى القصر الجمهوري قبل الرئيس المكلف في سابقة بروتوكولية.
الرابح الثالث هي دمشق، التي عادت وإن بقدرة وقوة غيرها، إلى المشهد السياسي في لبنان، إذ إن الدور الكبير والحاسم الذي لعبه النائب جميل السيد في عملية التأليف والذي حرص على تظهيره من خلال “سكوباته التويترية”، لا يمكن إلا أن يؤشر للمحاولة الجدية لدمشق في العودة إلى بيروت، ولعل حصول حلفائها اللصيقين على 5 وزراء زائد وزير الداخلية هو خير دليل على ذلك.
العودة السورية في الحكومة، والتي ناكفت بنعومة “حزب الله” في الأيام الأخيرة عبر رفع الشروط المفاجئة من حلفائها تؤشر إلى سعيها لإمتلاك أوراق قوّة إضافية تمكنها من الإستفادة منها خلال المرحلة المقبلة.
لكن الفريق المؤلف للحكومة، والذي وزّع الإنتصارات السياسية في ما بينه على قاعدة رابح – رابح، يدرك أن هذا الربح لا يمكن تقريشه في الوضع الحالي، وأن التسوية ستأتي على أنقاض الإنهيار الذي من المرجح حصوله خلال أيام هذه الحكومة، أي أن هذا الفريق السياسي سيتحمل عبء الإنهيار أمام الرأي العام، ونقاط القوة التي حصل عليها من خلال التأليف والتي من المفترض أن تعزز قدرته على التفاوض مع الغرب قد تتهاوى بسرعة مع تسارع حدّة الإنهيار.
ووفق المعلومات المتوافرة فإن الدعم العربي الذي يروج له البعض غير موجود، ولا حتى من قطر، كما أن واشنطن لا تزال غير راغبة بدعم حكومة دياب بل إن سياستها بالضغط الإقتصادي على إيران وسوريا والعراق ولبنان مستمرة، كما أن الأوروبيين ليسوا في وارد تقديم دعم مالي سريع للحكومة اللبنانية إلا بعد متابعة مقرراتها التي قد تأخذ أشهراً، وتالياً فإن الضغط سيستمر على الفريق السياسي الحليف لإيران وان الدعم معلق إلى حين الوصول إلى تسوية معه.
داخلياً، سينعكس غياب اي غطاء سني وفاعل من هذه الحكومة سواء من الرئيس سعد الحريري إلى الرئيس نجيب ميقاتي الذي غرّد بالأمس رافضاً حكومة المحاصصة، إلى دار الفتوى الذي لم يتضح بعد ما اذا كان سيستقبل رئيس الحكومة أم لا، إلى الشارع السني الذي يشعر بغبن موضوف، وبغياب الشرعية عن حكومة قانونية، على التوازنات، ما سيلزم “حزب الله”والمكونات السياسية المشاركة في الحكومة إلى القبول بعودة الدور للسنية السياسية في الحكومة المقبلة، التي من المتوقع أن تكون الحكومة الإنقاذية.. وحكومة التسوية.