المصارف تنتظر “رفيق حريري” ثانياً… إلى متى؟

كتب إيلي القصيفي في “أساس ميديا”:

مطلع الخمسينات انحاز المفكّر والمصرفي ميشال شيحا إلى وضع لبنان ضمن خريطة الشرق الأدنى لا الشرق الأوسط، الذي يمثّل الداخل الآسيوي، وذلك باعتبار أنّ خريطة الشرق الأدنى تحفظ انتماءه المتوسطي. علماً أنّ الفكرة المتوسطية لدى شيحا كانت فكرة متحركّة. فهي إذ انحصرت وتكثّفت لديه مطلع العشرينيات في فرنسا، وكأنّه ليس في المتوسّط سوى بلدين هما فرنسا غرباً ولبنان شرقاً، توسّعت هذه الفكرة بدءاً من أواخر الثلاثينات لتشمل ضفته الجنوبية ببعدها العربي والإسلامي.

لذلك يمكن تعيين سمتين رئيسيتين في فكر شيحا الذي يعدّ منظّر الليبرالية اللبنانية: أوّلهما أنّه صاحب فكر ديناميكي يأخذ في الحسبان تحوّلات المجتمع اللبناني والمتغيرات الجيوسياسية في المنطقة. وثانيهما، وهو الأهمّ، أنّه أقام اعتباراً أساسياً لتموضع لبنان الجغرافي كمعطى أساسي في تحديد وظائفه الإقتصادية وبالتالي جعله قابلاً للحياة من خلال تعويض صغر مساحته وضعف أهليته للمنافسة الصناعية وحتّى الزراعية.

وإذا كان ميشال شيحا الأب الروحي للنموذج الإقتصادي الحرّ الذي يرتكز أساساً على خصائص موقعه الجغرافي، فإنّ رفيق الحريري أعاد إحياء وتزخيم هذا النموذج من خلال استلهام رهان الشيحا على الجغرافيا السياسيّة للبنان.

على هذا المنوال كان الرهان التاريخي للاقتصاد اللبناني متّصلاً اتصالاً وثيقاً بالتموضع السياسي للبنان حيال المنطقة والعالم. أي أنّه رهان سياسي بالدرجة الأولى ويتمثّل في قدرة لبنان على تأمين بيئة استراتيجية مناسبة لنموذجه الإقتصادي السائد بما هو نموذج حافظ بالرغم من كلّ تّحولاته على سمته الرئيسية، أي صناعة الخدمات وتصديرها وذلك بحسب توصيف شيحا: “إمّا أن نعمل بحرية على تصدير الفكر والخدمات، على نحو منظور أو غير منظور، وإما أن نكفّ عن تصدير أي شيء”.

أدرك رفيق الحريري أنّ الليبرالية الإاقتصادية ليست مجرّد نظام إقتصادي مستقلّ عن المجال السياسي، بل هي معطى أساسي لتحديد الهوية السياسية للبنان سواء لجهة طبيعة نظامه السياسي أو لناحية العناوين الرئيسية لسياسته الخارجية وخريطة علاقاته الإقليمية والدولية. بمعنى أنّ أي تغيير جذري للنظام الاقتصادي سيستتبع حكماً تحولّا في النظام السياسي وفي تموضع لبنان الإستراتيجي، والعكس بالعكس، أي أنّ أي تحوّل في التموضع الإستراتيجي للبنان سيستتبع حكماً تحوّلاً جذرياً في نموذجه الاقتصادي.

هذه العلاقة الجدلية بين النظامين السياسي والاقتصادي في لبنان شكّلت محور نقاش وجدل بين نخب إقتصادية وسياسية لبنانية منذ وقوع الأزمة الكبرى في تشرين 2019. والسؤال الرئيسي الذي طرحته هذه النخب، وهي مسيحية بمجملها، هو عمّا إذا كان ثمّة قوى محلية وإقليمية تدفع باتجاه انهيار النموذج الليبرالي في لبنان كمقدّمة لتغيير نظامه السياسي، أمّ أنّ الانهيار الحاصل سببه اختلالات النظام الاقتصادي نفسه، أو الأمرين معاً؟

هذه الأسئلة المتأخّرة يفضحها عدم إبداء النخب الإقتصادية والمصرفية قبل وقوع الأزمة أي تحسّس علني وكثيف لخطورة الرهان على إمكان الفصل بين الوقائع السياسية والإقتصادية في لبنان، ما أوحى بوجود ظنّ مضمر لديها بإمكان الاستفادة من النموذج الليبرالي من دون تأمين شروط ديمومته. وهي شروط متّصلة حكماً بآليات اشتغال هذه الليبرالية وبكيفية مواكبتها التحوّلات داخل المجتمع، لكن متصلّة أيضاً بتوافق سياسة لبنان الخارجية مع مقتضيات النظام الاقتصادي المرتكز على الخدمات وجذب الاستثمارات والرساميل العربية والغربية.

هذا السلوك من جانب النخب الاقتصادية والمصرفية يرى فيه البعض انعكاساً للجنوح العام في البلد نحو تحقيق أرباح سريعة  في سباق كارثي مع الزمن كما لو أنّ الجميع كان يتوقّع النهاية الدراماتيكية لهذا السباق. لكنّ أيّا من الفاعلين السياسيين والاقتصاديين لم يشأ استدراكها أو أنّ أيّا منهم لم يجرؤ على الخروج من السباق خشية أن يقع ضحيته. لكنّ أوساط مصرفية تتحفّظ على هذا الرأي وإن كانت لا تخالفه تماماً. فهي ترى أنّ “مصرف لبنان حاول شراء الوقت بانتظار انفراجات إقليمية تنعكس إيجاباً على لبنان”، وأنّ “البنوك ساهمت في عملية شراء الوقت تلك واستمرّت في إقراض الدولة من دون فرض شروط عليها وهذا خطأها القاتل”.

تستذكر هذه الأوساط رفيق الحريري “الذي شغّل النموذج الاقتصادي”، لكن الأهمّ أنّ اغتياله صعّب بل أعدم إمكانات استيعاب اختلالات هذا النموذج والتي عمّقتها سياسات النظام السوري وحلفائه للاستفادة من الاقتصاد اللبناني وفي الوقت عينه تركه يواجه الصعوبات. ذلك أنّ تعافيه كان سيؤدي حكماً إلى توسيع هوامش الاستقلال عن الوصاية السورية. هذا كان الرهان الأساسي للحريري ولذلك تعامل النظام السوري وحلفاؤه بسلبية مفرطة مع مؤتمرات باريس لدعم الإقتصاد اللبناني. تماماً كما أنّ الحذر الشديد الذي يبديه حزب الله تجاه مؤتمر سيدر أسبابه سياسية بالدرجة الأولى.

لذا بدأت الأوساط المصرفية تضيء أكثر من ذي قبل على الأسباب السياسية للأزمة، عبر القول إنّ الإصطفاف التدريجي للبنان في محور إيران أحيا التناقض الكارثي بين السياسة الخارجية للبنان وبين مقتضيات نموذجه الاقتصادي، وهو ما قوّض قدرة  لبنان على جذب الاستثمارات العربية والأجنبية. هذا فضلاً عن آثار العقوبات الأميركية على حزب الله على القطاع المصرفي. وذلك بعدما رتّبت الحرب السورية أعباءً ضخمة على الاقتصاد الذي تضاءلت مصادر حصوله على العملة الصعبة، ما فاقم العجز في الميزان التجاري وفي ميزان المدفوعات وفي الموازنة العامة. أمّا القشّة التي قصمت ظهر البعير فكانت امتناع لبنان عن سداد ديونه من دون خطّة واضحة.

هذا كلّه يدفع الأوساط تلك إلى الربط بين حلّ الأزمة العامّة، بما في ذلك أزمة المصارف، وبين حسم السلطة السياسية لأمرين رئيسين: وجهة الإصلاح الإقتصادي ووجهة السياسة الخارجية اللبنانية: فهل سيرّمم لبنان علاقاته العربية والدولية أم سيعمقّ تموضعه الإقليمي إلى جانب إيران؟

من دون حسم السلطة لهذين الأمرين لا ترى هذه الأوساط أي أفق للحلّ، لكنّها تعبّر في المقابل عن حاجة لبنان إلى “رفيق حريري ثانٍ يخلق نموذجاً إقتصادياً جديداً”… لكن رفيق الحريري أحيا نموذجاً أصابته الحرب بأعطاب لكنّه لم يتداعى. أمّا اليوم فالنظام الاقتصادي، وعلى رأسه القطاع المصرفي، في حالة انهيار شبه تامٍ، وذلك في لحظة تحولّات كبرى في المنطقة تكاد تفقد لبنان آخر أدواره الاقتصادية فيها، بينما يعلن السيّد حسن نصرالله أنّ “لبنان موجود على الخريطة بسبب المقاومة والصواريخ”، لا بسبب “تصدير الفكر والخدمات (وفي مقدمّها الخدمات المصرفية)”، كما قال ميشال شيحا!

فأين المصارف من هذه المعادلة الجديدة؟ وإلى متى يمكنها أن تنتظر “رفيق حريري ثانياً”؟