ماذا بقي من الثورة … “القوات”؟

“ليبانون ديبايت” – فادي عيد

توقفت أوساط متابعة بدقّة متناهية أمام مشهد إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري، وتأليف الحكومة، بعد أنّ قدّم استقالته نتيجة لثورة ١٧ تشرين وبفعل وهجها، ومطالبة الناس بحكومة اختصاصيين، ورفضهم حكومة السياسيين والمحاصصات التي أثبتت فشلها بالتجربة.

والمستغرب في هذا السياق، أنّ الشخص نفسه، عاد، والحكومة نفسها تقريباً، تعود لتطلّ برأسها مجدّداً  إلى المسرح السياسي، لكأنّ “لا ثورة حصلت ولا من يحزنون”. فماذا حصل بين استقالة الرئيس الحريري استجابة لمطالب الشارع الثائر وإرادة الناس واليوم لتعود الأمور على طريقة business as usual؟ وأين هو هذا الشارع من إعادة التكليف؟ ولماذا لم يواجه هذه المحاصصة التي تمّ تكرارها من الفريق نفسه الذي ثار شارع ١٧ تشرين عليه في الأساس؟
أما بعد، فالسؤال المشروع الذي يُطرح اليوم: هل انتهت الثورة؟ وماذا بقي منها؟ وأين نبض الشارع؟ وأين ذهب مدّعو شعار “كلّن يعني كلّن” ؟ وأين خطّ أحمر وأزرق وأصفر؟ هل اندثرت هذه الخطوط كلّها؟ أين هذا النبض؟ والأهم من ذلك كلّه، لماذا وصلت الأمور إلى هذا الدرك؟ ولماذا تبعثرت وتعثّرت هذه الثورة لتقبل بما كانت قد أسقطته؟
في المحصلة، وفي استخلاص النتائج والعِبَر، أن الأمور تُقاس في من لديه القدرة على الثبات والإستمرار في الخط الأساس الذي يُعتبَر وحده جوهر نبض هذه الثورة، وهذا الخطّ هو عينه أكّد قبل انطلاقتها على ضرورة الذهاب الى حكومة اختصاصيين مستقلين في ٢ أيلول ٢٠١٩، ومن على المنبر الأول والأرفع في الجمهورية اللبنانية كلها، لتندلع الثورة في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩. مع العلم أن وزراء حزب “القوات اللبنانية” قدّموا استقالاتهم من الحكومة الحريرية بعد يومين من انطلاقة الثورة، وحدّدت “القوات” مسبقاً ما هي طبيعة حكومة المرحلة المقبلة، حيث يجب أن تتشكّل استجابة لمطالب الناس ولضرورة المرحلة الراهنة.
وتجدر الإشارة، أنه لم يبقَ من هذه المكوّنات الثوروية كلها سوى “القوات اللبنانية” التي حافظت على العناوين التي طرحتها الثورة، وما زالت تشكّل رأس حربة في طروحاتها هذه على ثلاثة مستويات أساسية كالآتي: 
– أولاً: في طرح حكومة الإختصاصيين المستقلين، وهي رفضت المشاركة في أي حكومة، بدءاً برفض مسار التكليف الذي حصل كلّه، منذ استقالة الرئيس الحريري الأولى إلى تسمية الرئيس دياب، والسفير مصطفى أديب، وصولاً إلى التسمية الثانية للحريري، وذلك انطلاقاً من قناعتها بأن أي تكليف وفق هذه الشروط، وبالمعطيات عينها، لأنها كانت متأكدة بأن هذه القاعدة في التكليف، لن تراعي مقتضيات التأليف للوصول إلى حكومة اختصاصيين مستقلين حقيقية وفعلية.
وبالتالي، بقيت “القوات” الوحيدة في هذا الطرح، والوحيدة التي رفعت الصوت للوصول إلى هذا الشكل من الحكومات، لا بل أبعد من ذلك بكثير، فهي ذهبت إلى حدّ ترجمة هذا الأمر على أرض الواقع برفضها المسارين: التكليفي والتأليفي كلّهما منذ ذلك الوقت وحتى هذه الساعة، إيماناً منها بقناعاتها السياسية أولاً، وبالشعارات التي رفعتها الناس الغاضبة والثائرة على هذه الطغمة الحاكمة والمتحكّمة برقاب البلاد والعباد ثانياً، واقتناعاً منها بالمسار الذي يجب أن تصل إليه البلاد.
– ثانياً: بقيت “القوات” الوحيدة المدافعة بشراسة مطلقة عن ضرورة الذهاب إلى انتخابات نيابيّة مبكرة إلى جانب حكومة الإختصاصيين المستقلّين، وهذين العنوانين هما ركيزتان أساسيتان للثورة والتغيير من أجل  الوصول إلى الأهداف  المرجوّة. مع العلم أنّ موضوع الإنتخابات النيابيّة المبكرة هو العنوان الأساسي الذي يجب أن تحمله الثورة، لأنه يشكّل رأس حربة في مواجهة هذه السلطة الفاسدة والساقطة نتيجة لممارساتها، ولأن الثورة قد نجحت في تبديل مزاج الرأي  العام اللبناني، وأخذت الأمور بشكل مختلف إلى المكان الصحيح.
 
وبالتالي، بدت “القوّات” بموقع الحريص على هذه الثورة، وعلى هذا المزاج العام الوطني الذي تجلّى في ثورة 17 تشرين، وعلى مطالب الناس، ما زالت أمينة ووفيّة لهذه الأمانة. ومن هذا المنطلق، حاولت إقناع “المستقبل” والحزب الإشتراكي بالإستقالة لكنّها لم تنجح. إلا أنّها ما زالت تطرح هذه الإستقالة كعنوان أساسي لضرورة التوصّل إلى الإنتخابات النيابيّة المبكرة حتى النجاح بتغيير السلطة السياسية الحاكمة.
– ثالثًا: “القوات اللبنانيّة” إلى جانب العنوانين السابقين شكّلت وتشكّل هذا الطرف السياسي الذي يدعو باستمرار إلى هذه الممارسة السياسية الشفّافة، وإلى خطاب عابر للطوائف والمناطق، توصّلاً إلى قيام دولة المؤسّسات في جمهوريّة قويّة، مع عدم إغفالها العناوين السياديّة التي تضمن الوجوديّة اللبنانيّة في إطارها الكيانيّ الحرّ، وذلك مواءمة للخطاب الذي يحمله معظم الناس الشرفاء والصادقين والكيانيين الأحرار الذين افترشوا شوارع لبنان في  17 تشرين المجيد. فصارت “القوات” بطروحاتها هذه العنصر الجامع الوحيد لما طرحه شارع الثورة بدءاً من أهمية قيام الدولة وسيادتها واستقلالها، وصولاً إلى دولة المؤسّسات والنزاهة والشفافيّة.
 وبين هذه العناوين كلّها، يبقى التمسّك بقانون الإنتخابات الحالي، والإلتزام بالمنحى الدستوري المطلوب، مسألة جوهرية لا يجوز التازل عنها، أو حتى المساومة عليها. وبالتالي، من المؤسف أن يكون ما بعد 17 تشرين كما قبله فتتشكّل حكومة كأنّ البلاد اليوم عادت إلى ما قبل هذا التاريخ، فالناس كلّها شعرت بأنّها فقدت سنة من عمرها ومن عمر هذا البلد بلا جدوى. وكأننا في  16 تشرين 2019!
 لكنّ إيمان “القوات” مطلق بأن الدينامية الوطنية الثورويّة التي خلقتها الثورة لا يمكن لأحد أن يدمّرها. فرهان “القوات” الوحيد اليوم هو على هذه الناس التي هي منهم وفي قلوبهم. لكن من ضرب الثورة هو بعض هذه الجماعات الغوغائيّة والإنتهازية لهذه اللحظة التاريخية لتعود هي نفسها من التاريخ بعدما لفظها. إضافة إلى بعض الهامشيّين الذين خرجوا منها وضربوها في صميمها، ولكن الثورة الحقيقية اليوم على أرض الواقع هي “القوات” التي وحدها تحمل العناوين التي حملتها الثورة، وتذهب فيها حتى النهاية من أجل ترجمتها على أرض الواقع، وهذه الثورة الحقيقية البيضاء تراهن على إرادة وصلابة وعزم هذه الناس الذين يملكون وحدهم القدرة على التغيير. ويبقى الأمل بغد أفضل موجوداً طالما بقي نبض هذه الناس حيّاً.