كيف يعود الـ “كاش” من المنازل الى المصارف؟

كتب فراس سليم في موقع mtv: 

قبل أربع سنوات فقط أي في العام 2016، احتّل لبنان المرتبة 37 في العالم في قائمة الدول حسب احتياطي النقد الأجنبي بما يقارب 50 مليار دولار أميركي الا نيّف متقدماً على دول كثيرة حول العالم مثل أستراليا، هولندا، جنوب أفريقيا، بلجيكا، البرتغال، نيوزلندا، صربيا، أرمينيا، لوكسمبورغ وغيرها من الدول ضمن قائمة وصل عددها الى 140 دولة. 

ومنذ فترة وجيزة وتحديداً في 30 آب 2019 أي قبل شهر و17 يوماً من اقفال المصارف أبوابها لأسبوعين، صرّح المصرف المركزي لـ “رويترز” عن زيادة احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي بنحو 1.4 مليار دولار لتصل إلى حوالى 38.66 مليار دولار، دون حساب الذهب.

وأتى ذلك ارتفاعا من 37.25 مليار دولار في 15 آب نفسه أي قبل أسبوعين.

ووفق سكاي نيوز، قال بيان للبنك المركزي أن الزيادة هي “نتيجة تدفق ودائع، مباشرة الى مصرف لبنان، من القطاع الخاص غير المقيم (وليس من دول أو جهات دولية)، مما يعكس ثقة المودعين ويعزز الثقة بالليرة اللبنانية، ويساهم بخفض العجز في ميزان المدفوعات”. 

أردت البدء بهذه المقدمة لأسلّط الضوء على مسيرة انخفاض حجم احتياط النقد الأجنبي في البنك المركزي اللبناني من ما يقارب الـ 50 مليار دولار في 2016 الى حوالي 39 مليار دولار في آب 2019 وهبوطه الحاد الى حدود الـ 20 مليار دولار حالياً.

وتكمن فائدة احتياطي النقد الأجنبي لأي دولة بأنها تتيح للسلطة النقدية فيها شراء العملة المحلية أو بمعنى آخر سك النقود بموجب أنها سندات دين، ما يشكل عامل استقرار لقيمة العملة المحلية.

كما إن الاحتياطي الفائض هو مؤشر إلى ارتفاع التصنيفات الائتمانية للدول، وهو الأمر الذي كان حاصلاً في لبنان حتى العام 2018. 

وإذا نظرنا الى الأشهر الـ 12 السابقة، نرى بأن حجم التآكل في احتياط النقد الاجنبي وصل الى 19 مليار دولار أنفق المركزي بعضاً منها في تسديد سندات اليوروبوند التي استحقت في تشرين الثاني 2019 ومواصلة تثبيت سعر الصرف ودعم المحروقات والقمح والدواء إضافة الى تغطية الاعتمادات الأجنبية للمصارف المحلية.

وهنا يختلف خبراء السياسات المالية والنقدية في لبنان حول ما وقع ضمن تلك المدفوعات تحت بند “لزوم ما لا يلزم” وما كان منها ضرورياً من الناحيتين المالية والاقتصادية. والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لم يُلزم المصرف المركزي البنوك المحلية أن تسدد التزاماتها تجاه المصارف المراسلة الأجنبية من ودائعها الخارجية والتي كانت تبلغ في بداية الأزمة 20.7 مليار دولار، حيث أن هذه المصارف أصرت على سداد الاعتمادات المستحقّة عليها للمصارف المراسلة من خلال سحب دولاراتها من حساباتها الجارية لدى مصرف لبنان.

واليوم نرى البنك المركزي “يحث” من خلال تعميمه الأخير رقم 154 هذه المصارف على إعادة نسب من ودائعها الى لبنان في حين كان عليه أن يجبرها على سداد التزاماتها من خلال تلك الودائع منذ بداية اندلاع الازمة في تشرين الأول 2019. 

والتعميم 154 الجديد حاله حال تعميم زيادة الرساميل بالدولار التي لم تتقيد به المصارف حتى الآن والذي كان من المتوقع أن يضخ أكثر من 3.8 مليار دولار أميركي بين كانون الأول 2019 وحزيران 2020 ولم يحصل ذلك.

وإن المصرف المركزي قد ساعد المصارف بشكل كبير خلال فترة الأزمة، ليس آخرها إتاحة الفرصة لها لتجميد حسابات الليرة لعملائها على سعر صرف 1515 شريطة تحويله وتجميده في عملة الدولار، في حين يبيع المصرف اليوم نفس هذا الحساب الى المودع وفق سعر صرف 3900 وطبعاً المصرف المركزي يتحمل الفرق ويزيد من الأعباء المستقبلية في دفاتره وهو الأمر الذي يعتبره الكثيرون مأخذاً عليه طيلة السنوات الثلاثين الماضية.

 إن المصارف اللبنانية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى إعادة النظر في سياسات تكوين رساميلها وإدارة سيولتها إضافة الى التجديد والابتكار في علاقاتها مع كل من المودعين والمقرضين.

وطبعاً تدهور العملة الوطنية هي خسارة جسيمة للمودع وربح لا يستهان به للمقرض في وقت تخطى حجم اقراض القطاع الخاص من أموال المودعين حاجز الـ 33 مليار دولار، حيث يفترض أنه بفضل تطبيق المعيار الدولي التاسع لإعداد التقارير المالية IFRS9  بداية العام 2018 والذي يضمن الخسائر المتوقعة للمصارف جراء القروض المتعثرة من خلال الضمانات التي يقدمها المستفيد من القرض أن تستطع هذه المصارف تأمين جزء كبير من هذا المبلغ الذي بالمناسبة حوالي 5 مليارات منه هي قروض للبنانيين غير مقيمين في لبنان من أصل الـ 33.3 مليار دولار التي اقرضتها المصارف الى اللبنانيين شركات وأفراداً من أموال المودعين لديها.

وعلى هذه المصارف اليوم أن تقوم بتحصيل ديونها التجارية وفق اتفاقات تقوم بها مع المقرضين حسب اتفاقات وتسويات معهم يرضى بها الطرفان.

 في الختام، إن أي إشارة ثقة يقوم بها المصرف المركزي تجاه المودعين اللبنانيين سيضخ أكثر من 5 مليارات دولار مكدسة “كاش” خارج المصارف وسيخفف من ثقافة اقتصاد “الكاش” الذي يقضي على العجلة الاقتصادية للبلد ويشّل أي فرصة لنهوضه من حالة الركود.

فمشكلة لبنان لم تكن يوماً نقدية كما يحاول البعض تصويرها بل أنها اقتصادية بحتة، حيث يعاني البلد من فقدان اتباعه لأي نموذج اقتصادي طيلة فترة ما بعد الحرب الأهلية حيث كان الناتج المحلي الاجمالي للبنان 2 مليار دولار في العام 1989 في وقت كان يصدّر أكثر من 350 مليون دولار للخارج ويعتمد على سد الكثير من احتياجاته محلياً في حين وصل حجم الناتج اليوم الى 54 مليار دولار أميركي وحجم الاستيراد الى 21 مليار دولار يتم دفعها من خلال ميزان مدفوعات أصبح سالباً مع مرور الوقت وبالتالي أثّر بشكل دراماتيكي على الاحتياطي النقدي الاجنبي للبلد.

 * الرئيس التنفيذي لمؤسسة Virtue  للاستشارات فراس سليم