الأزمة الحالية التي يمرّ بها لبنان هي أزمة نقص بالدولار بامتياز ساهمت في الوصول إليها عوامل عدّة، نذكر منها: التضييق الأميركي، الإستيراد المفرط الذي يُمارسه لبنان، ضعف التصدير اللبناني، ضعف القطاع السياحي، التهريب إلى سوريا، وقف دفع سندات اليوروبوندز وتخزين الدولارات في المنازل والشركات.
وشكّل إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية المصدر الأساسي لتأمين هذه الدولارات على مرّ السنين، إلا أن الفارق الحالي هو أن لا دخول للدولارات إلى لبنان حاليًا بسبب إعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز، ولكن أيضًا بسبب التضييق الأميركي.
دور القطاع المصرفي محوري في اللعبة الإقتصادية إذ أنه يؤدّي دوراً أساسيّاً في تمويل العمليات الإقتصادية من خلال القروض التي يُعطيها للشركات والأفراد.
وأتت الثقة المفقودة بالقطاع المصرفي لتؤدّي إلى تعظيم ظاهرة الإقتصاد غير الرسمي، أي العمليات الإقتصادية التي تتمّ نقدًا خارج القطاع المصرفي. وتُشير الأرقام إلى أن حجم الكتلة النقدية المتداول بها إرتفعت بشكلٍ كبير جدًا إلى مستويات تُظهر أن القطاع المصرفي أصبح شبه مُهمّش ويقتصر دوره حاليًا على إعطاء المودعين أموالهم الموجودة في المصارف، فقط لا غير!
إستعادة الإقتصاد اللبناني لحيويّته لا يُمكن أن تتمّ إلا عبر إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي الذي، وبسبب الظروف التي عصفت بالبلاد منذ 17 تشرين الأول وبسبب تصرفات القيمين على هذا القطاع (على مثال الإقفال أسبوعين مع بدء الثورة)، فُقدت الثقة به وأصبح همّ كل مودع سحب أمواله من القطاع المصرفي وتخزينه في المنازل.
كذلك الأمر بالنسبة الى التجار الذين باتوا يعملون بشكل شبه كلّي بـ “الكاش”، بالتوازي مع ظاهرة بدأ المصدّرون يقومون بها وهي وضع مداخيل صادراتهم في حسابات مصرفية خارج لبنان.
الحديث عن إنقاذ لبنان والمفاوضات مع صندوق النقد لمساعدة لبنان، يعنيان، بكل بساطة، أمرين: الأول تأمين عملة صعبة لسد حاجات الدولة المالية الملحّة، والثاني تمويل إستثمارات إقتصادية خصوصًا تلك المنصوص عليها في مؤتمر “سيدر”.
هذا الأمر يأتي بالتوازي مع إصلاحات يطلبها المجتمع الدولي من لبنان كشرط أساسي لتقديم المساعدة. تُقدّر قيمة الدولارات الموجودة في المنازل والشركات بين 5 إلى 6 مليارات دولار أميركي وقيمة الأموال بالليرة اللبنانية توازي 2 إلى 3 مليار دولار أميركي.
هذه الأرقام تفوق بشكل كبير ما ينتظره لبنان من مساعدات من صندوق النقد الدولي ومن مؤتمر “سيدر” في الأعوام الثلاثة الأولى.
من هنا يُطرح السؤال: ألا تحل عودة الأموال الموضوعة في المنازل والشركات مُشكلة النقص في الدولارات في المصارف اللبنانية؟ الجواب بديهي، وهو بالطبع إيجابي.
إلا أن المشكلة الأساسية تبقى في أن المواطنين والشركات لا يثقون بقطاعهم المصرفي الذي يعتبرونه مُحتجزاً لأموالهم، بسبب الحملة التي شُنّت على القطاع.
عمليًا، إعادة الأموال المخزّنة في البيوت والشركات تحلّ مُشكلة السيولة بالعملة الصعبة وتُريح المواطن من ظاهرة خطرة أخذت بالإزدياد، وهي السرقة.
ففي كلّ يوم نسمع بعمليات سرقة في مختلف المناطق، أضف إلى ذلك أن الإنفجار الدموي الذي حصل في مرفأ بيروت أطاح بالكثير من الأموال التي كانت مخزّنة في البيوت.
ومن المتوقّع أن تزداد هذه الظاهرة مع تردّي الوضع الإقتصادي وزيادة نسبة الفقر في لبنان لتصل إلى مستويات خطيرة في الأشهر القادمة يُصبح معها تواجد أموال في المنازل والشركات عبئًا ثقيلًا على أصحابها.
ويبقى أنّ كيفية إقناع المواطنين والشركات بإعادة أموالهم إلى القطاع المصرفي، يستوجب تطبيق سلسلة شروط:
1- تشكيل حكومة بشكل سريع قادرة على القيام بالإصلاحات، وخصوصًا خفض إنفاق الدولة.
2- إنهاء عملية إعادة هيكلة المصارف اللبنانية من خلال التعميمين وسيط رقم 567 وأساسي رقم 154.تعهد القطاع المصرفي بإعطاء المودع أمواله عند الإستحقاق بالطريقة نفسها التي سلمها إلى المصرف.
ترشيد الإستيراد بشكل منطقي وعقلاني حتى لا يتمّ إستنزاف الدولارات على أمور غير مُجدية.
التطوّرات السياسية التي تحصل حاليًا مع إرتفاع منسوب الضغوطات الدولية على المسؤولين في الدولة، تجعل من المرحلة القادمة مرحلة واعدة خصوصًا أن لبنان يقبع على ثروة هائلة من الغاز الطبيعي في البحر.
من هذا المنطلق، نرى أن على المسؤولين تلقّف هذه المرحلة والشروع في إجراءات تُعيد الثقة إلى القطاع المصرفي وعلى رأسها الإصلاحات التي تُشكّل شرطًا أساسيًا لأيّ خطوة إيجابية مُستقبلية.