الآن، بات يُمكن القول أن الطلاق الذي وقع بين القاضي بيتر جرمانوس ورعاته على مقلب العهد بات مبرماً بشهادة حكم صدر قراره مدمغاً عن “محكمة العهد” بتوقيع “ريّسها”.
كان يُفترض برئيس الجمهورية أن يوقّع كتاب الاستقالة حين وصله من وزيرة العدل ماري كلود نجم قبل شهرين لا انتظار أربعة أشهر لبتّ الأمر، على إعتبار أن أي إستقالة مماثلة تُعدّ نافذة حُكماً بعد مضي شهرين من تاريخ تقديمها. الحق هُنا لا يقع على الرئيس الذي حاول سواء عبر شخصه أو من خلال المقربين منه مراجعة جرمانوس أكثر من مرة أملاً في تعديل موقفه دون أن يتمكن من ذلك، بل على الوزيرة المعنية التي كان يجب أن تدع القانون “يمشي” لا ان تزج بالاستقالة في سجن تغييب المطالعة، في أسلوب ينم عن قلة خبرة في إدارة المركز.
القضية ليست على قياس وزيرة أو وكيل أمر مجلس رئاسة، بل في ضياع منظومة كاملة كنّا نعتقد أن العهد يمتلكها فاتضحَ عكس ذلك. من الواضح أنه يجري التلاعب بالعهد تحت مسميات عدّة منها التشكيلات القضائية. هذه المرّة الثانية ربّما التي تصل فيها التشكيلات إلى بعبدا ثمّ تُرد بعد أن تُرفع عبر مجلس القضاء الأعلى من خلال الوزيرة. مخالفات بالجملة ترافقت مع مسار طويل من التخبّط والضياع أجهزا على العهد، الذي يبدو أنه ضاع في طريق المعالجة بعد أن رميت التشكيلات في وجهه من دون أن يكون له رأي فيها. وفي ظل “تفريغها” من كافة القضاة المحسوبين عليه بات القضية مسألة حياة أو موت!
يُسجل لفريق مجلس القضاء أن أربكَ رئاسة الجمهورية بهذه التشكيلات. لا حيل له ولا قوة لتعديلها بل مجرّد قرارات رد. من الواضح أن مجلس القضاء يلعب لعبته مع الرئاسة، فهو يقدم على ابتزازها بتشكيلات مفخخة لا تنسجم وتطلعاتها، ثم يضع التشكيلة في عهدتها رامياً كل المسؤولية على عاتقها وهي التي لم تعد تعلم كيف تتعامل مع تشكيلة “فارغة” من رجالاتها، وكيف السبيل إلى الفرار من تحمل مسؤولية هكذا وضع أو السبيل للخروج من دوّامة وضعت نفسها فيها بسبب غياب الرؤية والخطط وكنتيجة طبيعية للقرارات الخاطئة سابقاً.
غياب الرؤية إنعكس على ملف بيتر جرمانوس. عدة عوامل يُسجل حضورها كأسباب رئيسية أدت إلى خروجه من موقعه، منها التباين اولاً الذي صعد على سلم العلاقة مع التيار الوطني الحر، راعيه السياسي – او هكذا كان يقال، كنتيجة لسياق كامل من التراكمات والأخطاء، وثانياً في الاستفراد الذي وقع في شباكه كنتيجة النزاع الإداري – القضائي الذي دارَ بين “دولة القضاء العميقة” والعهد والذي أنسحبَ لاحقاً على سائر القضاة المحسوبين على بعبدا وكانت إحدى أفظع نتائجه على العهد، “تفريغ” التشكيلات القضائية من أي قاضٍ يشتبه بقربه من الرئيس.
حسناً فعل رئيس الجمهورية حين حاول الاستئناس برأي مفوض الحكومة “المستقيل” ولو عند آخر شوط من المباراة، مقابل “قلة مبالاة” طبعت تصرفات نجم التي يُحسب عليها عدم دعوتها جرمانوس إلى مكتبها والاستماع منه عن أسباب ودوافع استقالته، ولربما كان استفادت أو غيّرت في وجهة نظره، بل على العكس، تركت الامور “تمشي” وكأن القاضي المعني مجرّد “حِمل وراح”…
يمكن تبرير هذا التصرف في حالة الركون إلى العلاقة السيئة التي جمعت جرمانوس برئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل خلال فترة معينة، إذ طغى النفور الواضح بين الجانبين إلى حدِ نشوء قطيعة على خط المتحف – ميرنا الشالوحي، تعززت بفعل مقاطعة من العونيين لجرناموس في مستهل خوضه معركة أسماها “تحرير القضاء من وصاية الأمن”.
أكثر من ذلك، كان جرمانوس بفعل خوضه للنزال بوجه فرع المعلومات عرضة للاستهداف من الجناح القضائي المحسوب على الادارة السياسية “الحريرية”، أي القسم ذاته الذي تقاطعت مصالح “العونيين” معه لاحقاً، التي ترجمت بقرارات إبعاد “البرتقاليين” عن القضاء، فأتت على ظهر جان فهد لقاء محاصصة عويدات – عبود، قبل أن تنضب مع دخول المتغيرات السياسية من بوابة الثورة وتتسبّب بأفول شهر العسل الأزرق – البرتقالي.
لدى “العونيين” رأي آخر لا يتماشى مع المذكور أعلاه. رغم أنهم لا ينفون حظوة جرمانوس بـ “دلال عوني” نسبة إلى موقعه والاهمية المتصلة به، لكنهم في المقابل يؤكدون أنه أخذَ يتصرّف من تلقاء نفسه من دون العودة إلى “مرجعيته”، ما خلق نفوراً بين الجانبين لم يستطع تذويبه “قضاة العهد” حتّى، فكانت النتيجة أعلاه (الاستقالة) قدراً محتوماً.
كلام لا يوافق عليه المطلعين على موقف بيتر جرمانوس في ظل تأكيدهم المتكرّر بأنه كان يُطلع القيادة السياسية على تجاوزات “أفرع الأمن” سيما “المعلومات” منهم، لكنهم لم يكونوا يعيرون ذلك أي أهمية.
يقال أن لدى جرمانوس مآخذ بالجملة على “المجموعة السياسية” التي كان يُحسب عليها والتي اعتصمت بالصمت أمام استهدافه، بل كانت سبباً في انكشافه ولاحقاً توفير ظروف تقديم إستقالته.
المجموعة متنوعة، تضم سياسياً حزب الله والتيار الوطني الحر، وعلى الطرف الآخر تيار المستقبل الذي يدعم فرع المعلومات وبينهما الجيش اللبناني، ولو أنه ذات تأثير أقل بفعل انصرافه إلى مهامه وأثقالها ووقوفه على الحياد في صراع أخذ طابع أمني – قضائي متحاشياً الانضواء في الاحلاف الثنائية ضمن الدولة.
يؤكد المقربون من جرمانوس أنه حين كتب بيان استقالته أدركَ أن اللحظة بالنسبة إليه انتهت ولم يعد هناك فائدة لوجوده في موقعه طالما أن السياسة أتاحت مد السلطة الامنية بالدعم الكافي لمد يدها على السلطة القضائية وتجويفها وتجفيفها. وحيث أن موقعه ضمن الإدارة اصبحَ دون أي فائدة تذكر نتيجة لذلك، وبات غير قادر على الاستمرار أمام كل هذا التآكل القضائي وأمام واقع أمني مدعوم، إختارَ الخروج وعدم العودة مجدداً كي لا يتحول إلى شاهد زور.
شيء من هذا الكلام يُعطي إنطباعاً أن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية قد قرّر الهروب من المواجهة أو أنه استسلم أمام واقع ما، وطالما أنه لم يقدر على تغيير شيء فمن المستحسن أن يخرج، هكذا هي الأمور بكل بساطة!
على أي حال انتهت جولة من حقبة المواجهة الامنية – القضائية تفوّق فيها الأمن على القضاء بشهادة المقربين من بيتر جرمانوس الذي توقّعَ هذه النتيجة سلفاً وطغيان الواقع الامني على المسار القضائي طالما أن عقلية الحكم المتجذرة هي نفسها.
المصدر:”ليبانون ديبايت“