الفيدراليّة تَجمعُ اللبنانيّين ولا تفرّق بينهم…؟!!!

يُصرّ البعض، ولغايات نجهلها، على تصوير النظام الفيدرالي وكأنّه الشيطان الرجيم والأداة الصهيونيّة لتقسيم لبنان، وهذا منافٍ للمنطق والعلم والمعرفة. فإذا كانت الفيدرالية نظامًا يقسّم، فنحن إذًا مقسّمون لأنّنا فعليًّا نعيش في فيدراليّة مقنّعة.

أمّا وأنّنا غير مقسّمين ونعيش في دولة واحدة، فهذا يعني أن الفيدرالية لا تُقسّم، وقد تشكّل منفذًا للبنانيّين إلى اتّحاد حقيقي يجمع بينهم إذا تمّ تثبيتها في دستور.

بين كسروان وطرابلس
زرت طرابلس قبَيل عيد الفطر برفقة اثنين من أصدقائي، وكانت نقطة انطلاقنا من كسروان. بين كسروان وجبيل صادفنا أربعة حواجز للدرك تدقّق بنُمَر السيارات (مجوز – مفرد) وبإجراءات الوقاية من “كورونا”.

وصلنا إلى طرابلس، فوجدنا الشوارع والأسواق مكتظّة. لا أحد يلتزم إجراءات الوقاية من “كورونا”. الناس تتصافح وتتبادل القبل ولا تلتزم المسافة الاجتماعية. نُمر السيارات في الطرقات مجوز ومفرد والدرك لا يتدخّلون. كنّا الوحيدين الملتزمين بالوقاية، وكان كلّ منّا يضع كمامة وفوقها واقٍ شفاف من البلاستيك يُغطي كامل الرأس. لا أبالغ إذا قلت أنّ أبناء المنطقة هناك كانوا ينظرون إلينا وكأنّنا مخلوقات فضائيّة، حتّى أنّ أحدهم رفض أن يكلّمني قبل أن أنزع الكمامة عن وجهي!
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فأسعار المواد الغذائية والخضار والفاكهة واللحوم والأسماك، لا تتجاوز أسعارها الـ 50% عن أسعارها في منطقتنا.

ربطة الخبز 1400 غرام اشتريناها بـ 1000 ليرة فقط. نحن يومها عشنا وكأنّنا انتقلنا من بلدنا إلى بلد آخر تُدير شؤونه سلطة غير السلطة التي نحن نخضع لها. وهذا ما قصدته في المقدّمة حين قلت أنّنا نعيش في فيدرالية مقنّعة.

الشواهدُ كثيرةٌ على أنّنا نعيش في فيدرالية، وهذا بعضٌ منها:
استقلال حزب الله بقراراته ضمن الدولة اللبنانية هو نوع من الحكم الفيدرالي.

إجراءات حزب الله المتفوّقة لمواجهة “كورونا”، وحصرها ضمن مناطق بيئته الحاضنة، هي نوع من الإدارة الفيدرالية.

منع الكحول، في بعض المناطق اللبنانية، وإتاحتها في مناطق أخرى، هو إجراء فيدرالي.

اعتداء أهالي لاسا على أناس من خارج بلدتهم، ومنعهم من الزراعة والاستثمار فيها، هو حماية فيدرالية لخصوصيّة مجموعة إثنيّة ضمن منطقتها.

تُشير وسائل الإعلام اللبنانية إلى زعماء الأحزاب الطائفية بأسماء المناطق التي يسكنونها، ميرنا الشالوحي، بيت الوسط، عين التينة، معراب، المختارة، بنشعي… وهذا يُشعرنا كأنّنا نعيش ضمن فيدرالية مناطقيّة.
توزيع المقاعد في مجلس النوّاب اللبناني، مناصفة بين المسيحيّين والمسلمين، ونسبيًّا بين طوائف كل من الديانتين، يندرج ضمن مفهوم الفيدراليّة الطائفيّة.

خطة إنشاء ثلاثة معامل لإنتاج الكهرباء، يقع أحدها في منطقة تحتضن بيئة شيعية، والثاني في منطقة بيئتها مسيحيّة، والثالث في منطقة بيئتها سنّيّة، لهي ضرب من ضروب فيدرالية الطوائف.

بمراجعة خلاف نوّاب الأمّة حول إقرار قانون العفو العام، يتّضح أن كل طائفة في لبنان، هي بيئة مستقّلة بذاتها. المسيحيّون يريدون العفو عن المنفيّين إلى إسرائيل ولا يقبلون به عن الإسلاميّين الذين خاضوا معارك ضد الجيش اللبناني.

السنّة يُريدون العفو عن الإسلاميّين بأي ثمن. الشيعة يُريدون العفو عن تجّار المخدّرات ولا يقبلون بالعفو عن المُبعدين إلى إسرائيل. هذا النوع من التباين سيبقى موضع خلاف وتناحر وتعطيل للقوانين وهدر لمقدرات الدولة، ولا يُمكن معالجته إلا بفصل المكوّنات المتناحرة عن بعضها، لتُصبح كلّ منها قادرة على التعبير عن وجدان بيئتها باستقلالية ومن دون الوقوف على آراء آخرين. هكذا أمر يتحقّق بالفيدرالية.
“انتفاضة العلم”

غداة قيام ثورة 17 تشرين، حين كانت الأحداث في ذروتها، كتبت الصحافيّة نضال أيّوب مقالة باللغة الفرنسية عنوانها:”la revanche du drapeau” (انتفاضة العلم)، اختصرت فيها الثورة بقيامة العلم اللبناني وسيادته في كل الساحات والتظاهرات، بينما اختفت منها الأعلام الحزبية بالكامل. بدوري، جذبني العنوان وحمّستني المقالة على مقاربة ظاهِرَة العلم في ثورة 17 تشرين. تناقشت بالموضوع مع الصحافية أيّوب، فتبيّن لي أن “انتفاضة العلم” بهذا الشكل البارز، انّما هي نتيجة عامل نفسي لدى معظم المحتجّين.

عندما كانت التحرّكات الاحتجاجيّة والمطلبيّة تحصل في ساحة مركزية واحدة، كما في أزمة “الزبالة” عام 2015، كان مناصرو الأحزاب والحراكات المدنيّة، يندفعون إلى الساحة وفي أياديهم أعلامهم الخاصّة قبل العلم اللبناني، وهذا الأمر ناجم عن إرادة باطنية لدى كل فريق أو حزب لتثبيت حضوره أمام الآخرين، لا بل للتمايز والنأي بجمهوره عن الآخرين.
في بداية ثورة 17 تشرين، اختلفت الصورة بمجرّد أن التظاهرات انتقلت من ساحة مركزيّة واحدة في العاصمة، إلى ساحات مناطقيّة على طول وعرض الوطن. بنزول كل مجموعة من الناس ضمن منطقتها، انتفت حاجة الأفراد للتمايز عمّن يقفون بقربهم، لأنّهم جميعًا ينتمون إلى نفس البيئة، وعلى الأرجح يعرفون بعضهم ويتّصلون بروابط عائلية واجتماعية.
أما بالنسبة للأعلام الحزبية، فغابت عن ساحات الثورة بالرغم من مشاركة عناصر حزبيّة في التظاهرات: أولًا لأنّ الأحزاب هي طائفية، ونفوذ كل حزب ينحصر ضمن المناطق التي يسكنها أبناء طائفته. فعندما يتظاهر الحزبي، في منطقته، بين أهله وضمن بيئة طائفته، لا يحتكّ بأفراد من الأحزاب والطوائف الأخرى، وبالتالي لا يعود بحاجة إلى رفع علمه الحزبي لتثبيت حضوره. وثانيًّا لأن الثورة نأت بنفسها عن الأحزاب.

بنتيجة تقصّي حركة المتظاهرين في الساحة المركزيّة وحركتهم ضمن مناطقهم، توضّح لنا التالي:
إن التظاهرات في الساحة المركزية لم تكن نتائجها فاعلة وقويّة كما نتائج تظاهرات 17 تشرين التي توزّعت ضمن المناطق. في الساحة بدا المتظاهرون أقلّ تماسكًا، إذ كانت أجهزة السلطة تستسهل السيطرة عليهم وتشتّتهم من خلال اللعب على تناقضاتهم الحزبية والطائفيّة. بينما في المناطق كانت المهمة أصعب، إذ ينتشر المتظاهرون على مساحة كبيرة، مما يتطلّب جهدًا إضافيًّا من القوى الأمنيّة لضبطهم، ناهيك عن تضاؤل إمكانية اختراقهم من قبل أجهزة المخابرات لأنّهم من البيئة نفسها. وللبرهان، بالرغم من تراجع ثورة 17 تشرين في الآونة الأخيرة، فإنّ تأثيراتها لم تختفِ، وآثارها متجلّية في تخبّط السلطة وأجهزتها بالرغم من اعتقاد البعض بأنّ هذه الثورة انتهت.
إذًا،

في الساحة المركزية: تتعزّز التناقضات الحزبية. تتشعب التحزّبات وتقوى على الولاء للوطن. تضعف الحركات الاحتجاجية. تنتهي الاحتجاجات في غضون ساعات. تعلو الأعلام الحزبيّة على العلم اللبناني.
في المناطق ضمن البيئة المستقلّة: لا مكان للصراعات. الولاء مطلق للوطن. المناطق تناصر بعضها بغض النظر عن انتماءاتها. التردّدات قوّية ومن الصعب لجم فاعليتها. المكان للعلم اللبناني وليس إلّا العلم اللبناني.
واستنتاجًا،
الساحة المركزية تُشبه نظامًا مركزيًّا. الساحات المناطقيّة تُشبه نظامًا فيدراليًّا. الأولى تضمّ شراذم ولاؤها للأحزاب وللخارج. الثانية متضامنة وتدافع عن بعضها وولاؤها للبنان.

هذا ما عنيناه في عنواننا ” الفيدراليّة تجمع اللبنانيّين ولا تفرّق بينهم”، وما ورد من حقائق في مقاربتنا الحاضرة، لا بدّ أن يُعتبر في أي صيغة للبنان جديد.

المصدر:”ليبانون ديبايت