تذهب التوترات الطائفية والمذهبية إلى الانفلاش يوماً بعد يوم. لا يخلو أي ملف مهما كان صغيراً أو كبيراً من منطلقات أو حسابات طائفية مباشرة أو غير مباشرة.
العناوين كثيرة وآخذة في التوسّع، وتزيد من حدّتها المواقف السياسية التي تُحيي الانقسام العامودي في البلاد.ما عاد الحديث محصوراً في صراع المحاصصات حول التعيينات والكهرباء والنفايات والنفط والمشاريع الإنمائية وغيرها، بل أخذ يرتفع إلى تحضير الأرضية لطروحات قديمة – جديدة من اللامركزية الإدارية والمالية إلى الفيدراليات على لسان سياسيين ونخب مسيحية، وإلى إعلان نهاية الصيغة اللبنانية التي أرساها بشارة الخوري ورياض الصلح التي عُرفت بـ «ميثاق 43» ورفض «اتفاق الطائف» بالفم الملآن من قبل المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، في مشهد فوقي متعال وشوفاني، قافزاً فوق الكلفة المرتفعة للحرب الأهلية التي دفعها اللبنانيون والتي فاقت 150 ألف قتيل وعشرات الآلاف من المفقودين ومئات الآلاف من الجرحى وآلاف المعوقين ومليارات الدولارات من الخسائر المادية.يقول عارفون في «البيت الشيعي» إن ما قاله المفتي قبلان لم يكن رسالة يريد «الثنائي السياسي» إيصالها بالمواربة، لا بل إنها في توقيتها جاءت لتنسف رسالة رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان قبل ساعات قد وجهها، والتي أراد من خلالها الدفع في اتجاه ما يراه حلولاً وطنية، بدعوته السياسيين إلى امتلاك الجرأة والشجاعة لاتخاذ القرار الوطني والتاريخي من خلال إعادة انتاج الحياة السياسية انطلاقاً من إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي يؤمّن الشراكة على قدم المساواة، وذلك بالاعتماد على قاعدة النسبية ولبنان دائرة انتخابية واحدة، وإنشاء مجلس للشيوخ إنفاذاً لما نص عليه اتفاق الطائف.
حتى أن هؤلاء العارفين بـ «البيت الشيعي» يقولون إن بري يبحث عن طريقة لدفع المفتي قبلان إلى إعادة تصويب ما قاله، من منطلق أن الأهمية التي أعطيت لكلامه بُنيت على اعتبارات أن الرجل محسوب عليه، فيما الواقع أنه متفلت من عباءته على خلاف والده الشيخ عبد الأمير المتماهي كلياً مع رئيس حركة «أمل».لكن رغم الاستياء الذي نُقل عن بري، لم يخرج موقف علني يتبرّأ مما قاله قبلان الابن في مسألة على هذه الدرجة من الخطورة تقتضي توضيحاً لا لبس فيه، ولا سيما أن المرحلة الراهنة حبلى بكثير من الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية الداخلية المفتوحة على قلاقل اجتماعية وحتى أمنية، في لحظة مواجهة إقليمية ودولية ينتظر كل اللاعبين نتائجها على مسافة الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل.
والأهم أنها تأتي في توقيت حسّاس وسط اشتداد الحصار على لبنان والإطباق الأميركي على سوريا وكل المتعاونين معها في المحور الإيراني، ولا سيما لبنانياً من خلال قانون «قيصر» الذي سيدخل التنفيذ شهر حزيران.ويلفت أحد المقرّبين من «حزب الله» إلى أن جوهر الفكرة التي انطلق منها الأمين العام لـ «الحزب» في مقابلة لمناسبة «يوم التحرير» يرتكز على التهدئة ضمن فريق حلفائه أو أيضاً مع الفريق الآخر في محاولة لقطع الطريق على أي اصطفافات في الداخل تفجر الوضع، ولا يُريد تالياً الذهاب إلى مشاكل ترتبط بما له علاقة بالصيغة اللبنانية، انطلاقاً من الاقتناع بأن المنطقة برمتها في فترة انتقالية، وليس فقط لبنان، وهذه الفترة قد تتوسّع وتطول بحكم طبيعة المعركة، الأمر الذي يتطلب تأمين إدارة مقبولة للأزمة بما فيها هبوط هادئ للانهيار المالي – الاقتصادي.
هذا المشهد المُربك زادت عليه «قضية لاسا» الجبلية، بما لها من تداعيات على العلاقة المسيحية – الشيعية في تلك المنطقة، بحيث أن عودة تفجر هذه القضية في هذا التوقيت تحمل مزيداً من احتمالات انفلات الأمور حول صدامات مجتمعية بعدما علا الصوت الاعتراضي الكنسي – النيابي – السياسي على الاعتداءات المستمرة على أملاك الكنيسة والتي تجلت هذه المرة بمنع الأهالي من ولوج الأراضي التي خصصتها الكنيسة لمشروع زراعي في إطار دعم أبناء المنطقة حياتياً.
وهو اعتراض، وإنْ سعى إلى عدم العزف على وتر الانقسام الطائفي والمطالبة إلى حله عبر السبل القانونية، لكنه في العمق ينم عن خلاف ذات بعد طائفي وسط الاقتناع السائد بأن «حزب الله» يعمل على خلق أمر واقع من بوابة الملف العقاري.ما يزيد من حال الغليان راهناً أن الأمر ليس متعلقاً بنزاع عقاري مع الكنيسة، بل إن المشروع الزراعي يُقام على أراضٍ ممسوحة واضحة الملكية، ما يجعل الممارسات القائمة بمثابة محاولة جديدة لوضع اليد بشكل فعلي وحقيقي على الملكية الفردية، مترافقة مع أعمال مضايقات وترهيب، ونبش لكلام قديم عن غزاة لمناطق بلاد جبيل التي كان يقطنها الشيعة حصلت في التاريخ، ما يدفع إلى تأجيج الوضع في ظل ارتفاع منسوب الخطاب العنصري والطائفي والمذهبي.
حتى أن سقوط قانون العفو العام في مجلس النواب، أمس، والذي أُعد في إطار «المثالثة» بين فئة سنية متخصصة بالإرهاب، وفئة شيعية متخصصة بالمخدرات، وفئة مسيحية متخصصة بالعمالة لإسرائيل، انتهى إلى اصطفاف مسيحي – إسلامي على خلفية الاشتباك السياسي القائم بين التيار العوني وتيار المستقبل، ما سيؤدي إلى ارتفاع منسوب التوترات، ولا سيما في الشمال، والتي من الصعب التكهن بمآلاتها. وإنْ كان كثير من المراقبين يرى – رغم ما قد نشهده من قلاقل – أن الأمور لا يزال من الممكن ضبطها وعدم الوصول بها إلى حدود الانفجار.
المصدر:”اللواء“