قبل مئة يوم، كانت خشبة المسرح تتحضّر لعرض أول وإستثنائي.
وكان الجمهور في القاعة يترقّب…”وإذ”… هنا، لا بد من الاستعانة بالموسيقى التصويرية، فلتكن إيقاعية مع قرع الطبول، وصاخبة تصمّ الآذان، لأن الحدث الجلل يتطلب ذلك.بعدها، ليأتِ دور آلات النفخ الهوائية.
البوق هو الاختيار الأمثل…ثم… صمت مطبق…ثم عودة الى “وإذ”… لتفتح الستارة على بحر هائج… تهدر أمواجه العاتية وتتلاعب بالسفينة يميناً وشمالاً، شمالاً ويميناً، تتدفق المياه اليها… يبدأ الركّاب بالصراخ والولولة.الغيوم السوداء تجعل الرؤية مستحيلة، تحوّل النهار ليلاً أسود.
العاصفة تشتد، صوت الريح مخيف، الجمهور يقشعر بدنه… لا أمل بالإنقاذ.فجأة… يغيب المشهد وتحتل المسرح ستارة وردية تشع بعبارة “بعد مئة يوم”.
“وإذ”، تنقشع الغيوم على المسرح ويبزغ الفجر متحدّياً سواد الليل. ويأتي فرسان على صهوة جياد خشبية، يمخرون عباب البحر الهائج ويقفزون الى السفينة، ممتشقين جعبة ممتلئة حتى 97% من حجم استيعابها. يفردون المحتويات على الخشبة، فتتطاير إنجازات كفيلة بالقضاء على البطالة والفقر والتلوث والفساد والصفقات.
وتملأ سماء المسرح أسهم نارية لتتساقط شهبها مشاريع خنفشارية ومواقف دونكيشوتية وتصريحات غوغائية، ولا ينفع الترقيع المرافق للتراجع عنها بحفظ ماء الوجه.
“وإذ”، ومن حيث لا نتوقع، تحصل المعجزة، وتصل السفينة الى بر الأمان وسط تهليلات المبتدئين الذين يحتلون الخشبة ويؤدون أدوارهم كتلاميذ يحملون شهادات لا يستحقونها. لنكتشف انه تمّ ترفيعهم من دون امتحانات فعلية.ومع هذا، يقرر المخرج أن اللحظة تاريخية.
تتغير الموسيقى، تطغى أنغام الآلات الوترية، تحل الرومنسية الممزوجة بالحنان مع تنهدات من هنا وهناك. ولا بأس برقصة استعراضية تعبر عن الفرج الذي طوى صفحة اليأس.حتى أن بعض الركاب فاضت مشاعرهم دموعَ فرح وسارعوا الى معانقة بعضهم البعض وتبادل التهنئة بزوال الكابوس.
لحظة… قوس قزح الخشبة لم يلغِ حقيقة أن الجمهور الذي يحاول متابعة الاستعراض يغرق أكثر فأكثر في خضم العاصفة.
المياه تنهمر على رؤوس المشاهدين من ثقوب كبيرة وكثيرة تحوِّل سقف القاعة الى منخل، وتجعل الرؤية ضبابية.
إلا أن ما يحصل على أرض الواقع لم يحُل دون تكديس الإنجازات على الخشبة. ولم يؤثر على العرض المستمر بنجاح منقطع النظير، ان هناك من يبيع المحركات في السوق السوداء.
وهناك من يهرب الوقود الى خزانات على الحدود. وهنالك من يهرّب الدولارات في حقائب تعود الى طرابين حبق محسوبين على الممانعة التي تحتكر غرفة القيادة عندها، وتحرك المصائب التي تغرقنا عن بعد.
بالتالي لا غرفة قيادة عندنا لتكون أبوابها مخلعة.الجمهور يعرف أن على الخشبة كومبارس فيهم بطل أو فتى أول… ويعرف أنهم أعجز من أن يستخدموا أجسادهم شراعاً. في الحقيقة، هم لم يقتربوا حتى من السفينة، ولم يغادروا حجورهم لأنهم يخافون على أنفسهم من نسمة الهواء، لذا لم يعرفوا أن السفينة انقلبت وانتهى الأمر، وعقارب الساعة توقفت عن الدوران.
لكن أبطال إنجاز المئة يوم في نشوة ما بعدها نشوة. المهم أنهم على الخشبة. ولا يغبِّر على نشوتهم انهم يدورون حول أنفسهم حتى تتلألأ النجوم في أعينهم وتزوغ أبصارهم.
المصدر:”نداء الوطن“