وسط براكين الداخل ورغم الملفات “المُشتعِلة” التي تزنّر الحكومة والعهد، فإن قطبة التشكيلات القضائية المتعثّرة منذ نحو شهرين ونصف لا تزال تفرض نفسها كأحد أكثر الملفات إحراجًا للعهد!
مرّت التشكيلات منذ صدورها في بداية آذار الفائت بمطبّات عدّة عنوانها الأساس: عرقلة رئيس الجمهورية قدر الإمكان وصول المرسوم اليه بسبب رفضه الصريح له، مفضّلًا إتمام عملية “تعطيله” عن بعد بأكثر من سيناريو.
آخر أخبار التشكيلات تشي بمزيد من التعقيد الذي يفضي الى نتيجة واحدة: نهاية غير سعيدة لتشكيلات “تعيسة” بنظر رئيس الجمهورية، وغير مسبوقة بتاريخ القضاء برأي مجلس القضاء الأعلى!.
وعلى هامش مصير المرسوم المعلّق برزت مؤخرًا آراء دستورية تفتي بإلزامية توقيع رئيس الجمهورية على المرسوم باعتبارها صلاحية مقيّدة له تحت طائلة اتهامه بمخالفة القوانين.
وربطًا بما ورد في موقع “أساس” عبر تأكيد المرجع الدستوري حسن الرفاعي والوزير السابق ابراهيم النجار مخالفة رئيس الجمهورية الدستور بعدم توقيع التشكيلات يقول وزير العدل السابق سليم جريصاتي لـ “ليبانون ديبايت”: “يؤسفني أن أكون مضطرًا الى الردّ على عَلَمين من أعلام القانون، وأحدهما استاذي في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية وزميلي لاحقًا فيها، بإتهامهما رئيس الجمهورية بمخالفة الدستور والقانون بعدم توقيعه التشكيلات القضائية.
أما الردّ فعلى أربعة متسويات:
الأول: أنه لم يصل لفخامة الرئيس لحينه مرسوم بالمناقلات القضائية، وفقًا لما اقترحه مجلس القضاء الأعلى بالمناقلات، ذلك ان ثمّة من ارتأى تجزئة مشروع المرسوم الى جزئين: جزءٌ يتناول القضاة العدليين في القضاء العادي، وجزء آخر يتناول القضاة العدليين في القضاء العسكري، وهذا ما لا يستقيم بسبب التلازم والتداخل. إن هذه الواقعة بحدّ ذاتها تَجبَه ما أدلى به المنتقِدون.
الثاني: على سبيل الاستطراد، من باب المنفعة الدستورية والقانونية ليس إلا، إن المرسوم العادي هو ما تبقى لرئيس الجمهورية في الدستور بعد تعديلات 1990 تمكينًا له من تحقيق قسمه. ومن المعتمد أن الدساتير لا تنصُب مكائد للمساءلة والمحاسبة. ان المرسوم العادي متروك لتقدير رئيس الجمهورية، ولا تقيّده أي مهلة زمنية أو شرط آخر.
أما الصلاحية المقيّدة compétence liée، فتُصلِح عندما يكون الإجراء إداريًا فقط acte administratif. فهل نحن هنا أمام إجراء إداري؟
الثالث: ان المجلس الدستوري ينظر فقط في الطعون التي تتناول القوانين والانتخابات ولا صلاحية له سوى ذلك عملاً بالمادة 19 من الدستور.
الرابع: هل يجب أن نعود بالذاكرة علّها تنفع الى قرار مجلس الشورى الفرنسي المبدئي تاريخ 7-4-1953 (Falco-Vidallac) الذي يشرح بصورة جلية الفرق بين التنظيم القضائي والوظيفة القضائية؟ وهل يتمتع مجلس القضاء الأعلى بالشخصية المعنوية في ظل القوانين المرعية؟
“من هذه المنطلقات”، يضيف جريصاتي، “أرى انه حسنًا فعل أيضاً النائب السابق صلاح حنين (تحدّث لموقع “اساس” عن الشق السياسي للتشكيلات) بعدم تناوله الموضوع دستوريًا، ذلك لأني افترض أنه سيقول ما قلت”.
وفي شأن اتهام رئاسة الجمهورية بالطلب من وزيرة العدل ماري كلود نجم تجزئة المرسوم، بهدف تطيير التشكيلات يقول
جريصاتي لـ “ليبانون ديبايت”: “محاكمة النوايا مرفوضة بالمبدأ وبالمطلق. وعندما يصل مشروع التشكيلات كاملًا الى قصر بعبدا يُدلي رئيس الجمهورية بدلوه”.
وما لم يَقله جريصاتي يؤكّده قريبون من عون بأن “لدى رئيس الجمهورية اليوم فقط مرسوم القضاة العدليين في القضاء العادي، وهو متداخل مع مرسوم القضاة العدليين في القضاء العسكري الذي لم يصل الى مكتب الرئيس بعد. وفي هذه الحال إمضاء الرئيس على المرسوم الاول ليس ممكنًا كي لا يجد بعض القضاة أنفسهم أمام مواقع غير شاغرة عيّنوا فيها بسبب التداخل بين المرسومين”.
لا إجابة في بعبدا عن الجهة التي اقترحت التجزئة بالأساس “لا نعرف إذا وزارة العدل أو الدفاع، لكن حكماً ليس رئيس الجمهورية من طلب ذلك. مع العلم أن مجلس القضاء الاعلى نفسه أدان التجزئة، ورئيس الجمهورية بدوره لا يوقّع على مرسوم بجزئين”.
وفي مقابل هذا الواقع الرئاسي، تؤكّد مصادر مطلعة “أن التجزئة كانت مقصودة لتعطيل التشكيلات بسبب رفض رئيس الجمهورية لها”.
يذكر أن المكتب الاعلامي لوزيرة العدل كان أعلن في 17 نيسان الفائت “أن تجزئة وزيرة العدل مرسوم التشكيلات إلى مرسومين من شأنه أن يحصر توقيع وزيرة الدفاع بمرسوم تعيين القضاة العدليين لدى المحاكم العسكرية وفقًا للمادة 13 من قانون القضاء العسكري، دون توقيعها على التشكيلات المتعلقة بالقضاة لدى المحاكم العدلية”.
وبتأكيد المصادر نفسها أن “هدف هذا السيناريو أدى مبتغاه حتى الآن ما يدفع رئيس الجمهورية الى القول بأنه لا يستطيع توقيع مرسوم بجزئين، مع العلم أن هناك سابقة واحدة في موضوع التجزئة حصلت في آب 1999 خلال ولاية الرئيس الأسبق أميل لحود ووزير العدل آنذاك جوزف شاوول، وقام يومها لحود بتوقيع مرسومين للتشكيلات”.
بالمقابل، يرى مطلعون أن حجّة المرسومين المانعة لتوقيع عون لن تصمد طويلاً. فوزيرة الدفاع زينة عكر التي لم تبقِ مرسوم القضاة العدليين في القضاء العسكري على مكتبها أكثر من أربعة أيام، عادت وطلبت من مجلس القضاء الأعلى شطب أسماء ستة قضاة يشكّلون فائضاً في ملاك المحكمة العسكرية البالغ 12 قاضيًا، وقد وافق المجلس على طلبها.
وبالتالي، بعد حلّ مسألة العدد وفي ظل تمسّك مجلس القضاء الأعلى بتسميته كافة قضاة المحكمة العسكرية، فإن ما أقدَمت عليه الوزيرة عكر يشكّل، برأي هؤلاء، فرصة لإعادة دمج المرسومين في مرسوم واحد من جانب وزيرة العدل لينال بعدها تواقيع الوزراء المختصين ورئيس الحكومة ثم يصل الى مكتب الرئيس بصيغة مرسوم واحد، ويلغي عائقًا تتذرّع به رئاسة الجمهورية لعدم التوقيع.
مع العلم أنه حتى لو بقي المرسوم بجزئين، فقد أصبحا بعد مبادرة عكر بطلب شطب الفائض فقط متجانسين ومتطابقين ولا يؤدّيان الى أي تداخل بين مواقع القضاة بالزائد او الناقص”.
وتفيد المعلومات في هذا السياق أن “عكر لم يكن لديها اي اشكال في التوقيع على المرسوم الا لناحية شطب الفائض في ملاك المحكمة، أما تأكيد صلاحيتها ربطاً بالمادة 13، فليس شرطا مانعاً للتوقيع على المرسوم”.
كما يؤكد المطلعون أن “لا حجّة بعد الآن أمام عون لعدم التوقيع إما على مرسومين متطابقين، او صيغة المرسوم الواحد في حال بادرت الوزيرة نجم الى اعادة دمجهما، وهو الامر الذي يعوض سقطة الاقدام على التجزية بالاساس”.
أما بالنسبة لعدم تقيّد رئيس الجمهورية بإلزامية التوقيع على التشكيلات يوضح هؤلاء المرسوم العادي هو الذي لا تسبقه آلية اتخاذ أخرى للقرار(كمرسوم الاقدميات للضباط مثلاً)، أما التشكيلات فهناك آلية تسبقها هي قرار مجلس القضاء الاعلى بإصدار تشكيلات بموجب القانون فيصبح توقيع الرئيس هنا من الصلاحيات المقيدة له”.
المصدر:”ليبانون ديبايت“