لم يكن مشهد القصر الجمهوري محصوراً بمناقشة الخطة المالية للحكومة، والجميع يعرف عثراتها. فإذا كان حدث حضور سمير جعجع إلى بعبدا كسر روتين الحضور، فإن مناظرته غير المباشرة مع جبران باسيل في غياب سليمان فرنجية كانت جزءاً أساسياً من الحدث.
لم تكن الخطة الاقتصادية المعروفة هي الحدث في قصر بعبدا، بقدر المبارزة الرئاسية بين مرشحين مارونيين للرئاسة، حاضرين على طاولة النقاش، ومرشح غائب بفعل ما يراه «كيدية سياسية» تطاوله في ملف الفيول المغشوش.
من المرات القليلة في السنوات الأخيرة، يقفز رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع قفزة صائبة، بمعنى الدخول مباشرة في قلب المعارضة، وحيداً من دون حلفائه فلا يبدو ملحقاً بهم، وقاصداً ألا يتحول إلى كبش محرقة كما جرت العادة على يد حلفائه وخصومه على السواء، فتقدم بالنقاط هذه المرة على خصميه المارونيين.
رغم دعوات الى مقاطعة اجتماع بعبدا، حتى من داخل القوات، خشية أن يجيّر الحضور الى القصر الجمهوري مرة أخرى لمصلحة بعبدا والعهد، فتستهدف القوات كالعادة، تمكن جعجع في خلاصة مشاورات أن يقطع الطريق على من حاول سحبه الى مربع لا يريده في هذه المرحلة الحساسة. لم يخرج عن خط أراده بمراقبة الحكومة وعدم كسرها على يده، لكنه أراد وضع النقاط على الحروف من حيث يدافع عن الرئاسة، كموقع، فيلبّي الدعوة الى بعبدا، لكن من زاوية المعارض لسياستها.
التوقيت الذي كان يحتفظ لنفسه به في الشارع وفي السياسة لا يزال يملك مفتاحه، إلا أنه أفشل محاولة جره الى مكان لا يرغبه، وخصوصاً حين يرى حلفاءه المفترضين في قوى 14 آذار السابقة: واحد مستمر في علاقاته تحت الطاولة وفوقها مع حزب الله، وآخر يذهب الى قصر بعبدا، في اللحظة التي يحثّانه فيها على إطلاق النار على الحكومة والعهد. منذ لحظة دخول جعجع الى القصر الجمهوري، ميّز نفسه.
بدا متحرراً من عبء تحالفاته القائمة «على ثوابت استراتيجية»، فجاءت حركته في لعبة شطرنج مفتوحة، لتصيب عصفورين بحجر واحد. قال صراحة معارضته للعهد، وميز الحكومة، بمنع «استغلال» معارضته، وتجييرها لمصلحة منافسيه الرئاسيين وقد بدأت لائحتهم تكبر من وزراء ووزيرات. لم يعد مهماً ما قاله جعجع بالحرف، وقد استكمله أمس في حديث تلفزيوني، لأن حركته السياسية هذه المرة كانت أكثر فاعلية. لكن العبرة تبقى دائماً في الخطوة التالية، فلا يستفرد مجدداً، ولا يقفز إلى استنتاجات سريعة.
حضر جعجع وغاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. كان يفترض أن يكون المشهد معكوساً.
حلفاء فرنجية كلهم شاركوا، لكنه الوحيد الذي غاب من هذا المعسكر، بعدما وصلت الأمور بين العهد والمردة الى القضاء. قضية الفيول المغشوش كسرت ما كان قائماً حتى الآن، وستكسر الجرة نهائياً بين الطرفين، رغم تدخل حلفائهما الرئيس نبيه بري وحزب الله. غاب فرنجية، فيما يدرك، والتيار الوطني الحر، أن ملفات أخرى ستطرح على طاولة مجلس الوزراء وسترتفع نسبة المشاكسة فيها، وخصوصاً في ملف التعيينات المالية أو الإدارية.
وهذا سيحوّل مجلس الوزراء إلى مجلس مفخخ، إن لم يحسم حلفاؤهما وجهة الكباش بين مرشحَين، يحاول أحدهما وهو من في يده السلطة أن يزيد من ضغطه ليزجّ جميع من يعتبرهم «فاسدين» في السجون، فيحرق أوراق المرشحين واحداً تلو الآخر.
من هنا، يصبح كلام رئيس الجمهورية الأخير عن الانتخابات الرئاسية والمرشح جبران باسيل له مغزى في هذا التوقيت، وخصوصاً بعد محاولات انكفاء باسيل الإعلامية بعض المرات، لتهدئة الساحة السياسية، لكنه سرعان ما يتفلّت من كل ضوابط يحاول وضعها لنفسه. بدا رئيس التيار الوطني الحر في بعبدا لابساً عباءة المعارضة، فلم يقنع أحداً، فيما هو مستمر بدوره مرشد العهد ومرشد الحكومة على السواء.
فهو دخل الى طاولة النقاش حاملاً شعارات، لا يمكن أن يقولها أحد كبار مسؤولي العهد أو أوحدهم، القابع في السلطة ما يفوق 3 سنوات ونصف سنة، ووزيراً مشاكساً في حكومات مسؤوليتها فاقعة في الانهيار الحالي، ومشاركاً في صفقة التمديد لحاكم مصرف لبنان وتغطية ارتكابات المصارف.
لا يمكن شخصاً بهذه المواصفات أن يتحدث عن «الودائع التي فقدت أصلاً». هذا كلام يقوله المودعون الذين طارت أموالهم فعلاً. ولا يمكن أن يحمل قميص النازحين السوريين، في كل قضية، بعدما فقد عدة الشغل، أو حتى الإصرار على استثمار «المنتشرين» والإفادة من أموالهم، في استمرار لجولاته الاغترابية خلال تولّيه وزارة الخارجية.
هذا خطاب رئيس حزب «يميني» يحاول أن يميّز نفسه ضمن مجموعة من الحلفاء كانوا الى جانبه ولا يتّفقون معه على عناوين الخطاب السياسي والمالي. لكنه قطعاً لم يكن خطاب مرشح رئاسي يحاول في كل إطلالة أن يزيد رصيده كخليفة أوحد للرئيس الحالي، رغم كل المصاعب التي تواجه اللبنانيين في معيشتهم اليومية، فيحاول أن يغسل يديه من ممارسات ادت الى أن يتساوى اللبنانيون المقيمون و«المنتشرون» في بلادٍ انهار اقتصادها، بالفقر والجوع.
المصدر:”الأخبار”