“الأمور المهمّة للغد”

حين قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن يتكلّم، قرّر أيضاً أن يختبئ وراء لغته. بدا الرجل كمن يطأطئ رأسه كي يحمي نفسه، يحمي نفسه بلغة المصطلحات الماليّة التي يتقنها جيّداً، والتي لا يفهم الناس منها إلّا القليل، وهي في أيّ حال لا تشفي غليلهم لمعرفة حقيقة ما يجري في هذا البلد الدهليزيّ بين الدولة والمصارف والحاكم الذي يستتر خلف حيطان من أرقام.

ولكن هذا كلّه لم يأتِ بالصدفة. لقد درس الحاكم طلّته جيّداً، وبدا “تعباناً على سكوته” كما غنّت فيروز ذات يوم.

الإحجام عن تلبية تطلّعات الناس إلى خطاب يفضح المستورات، والتلطّي وراء لغة رقميّة جافّة، كان قراراً تكتيكيّاً ذكيّاً من جهة الحاكم. لقد حافظ على برودة أعصابه في وجه الحملة الشعواء التي أطلقها حسّان دياب ضدّه. ولجأ إلى لغة الأرقام كي يؤكّد بالأسلوب مضمون ما قاله. فالمسؤوليّة الكبرى يتحمّلها السياسيّون في هذا البلد، قديمهم وحديثهم، وأجهزة الرقابة.

أمّا هو، حاكم المصرف، فليس مسؤولاً عن كيفية إنفاق المال في الدولة. هو أمين الخزنة فحسب. في المؤتمر الصحافيّ الذي خرج فيه الحاكم عن صمته تحوّلت لغة المصطلحات النقديّة إلى جدار جديد يتمترس الرجل وراءه كي يؤكّد أنّه ليس سياسيّاً ولا ابن سياسيّ. وكان لسان حاله يقول للناس: السياسيّون الذين انتخبتموهم هم سبب الفساد. إذهبوا واسألوهم، إذهبوا وحاسبوهم.

 طبعاً نستطيع أن نلوم الرجل أخلاقيّاً.

كيف يسمح لنفسه، في أسوأ أزمة اقتصاديّة وسياسيّة يشهدها لبنان في تاريخه، أن يبقى على صمته رغم كلّ ما تفوّه به؟ في نهاية المطاف، هو كان جزءاً من المنظومة التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم. ولكنّ الأكيد أنّه ربح الجولة الأولى: ربحها بأعصابه الحديديّة ولغته الرقميّة الباردة التي لم تقل شيئاً. وربحها بأنّه هتف في وجه حسّان دياب ومَن وراء دياب: لست وحدي مسؤولاً.

فالمصرف المركزيّ له مجلس مركزيّ تتمثّل فيه وزارة الماليّة. وللحكومة مفوّض مسؤول أن يبلّغكم كي لا تبدي لكم الأيّام كم كنتم جهلة – رحم الله طرفة بن العبد. وأرقام المصرف المركزيّ كلّها عندكم. طبعاً هذا لا ينصّله من المسؤوليّة أمام القانون وأمام الضمير وأمام الشعب الجائع. وهذا لا يستدلّ منه أنّه لا يكذب ولا يخفي حقائق. ولكنّ هذا يُربحه الجولة الأولى فحسب، وذلك على رأي القول اليونانيّ المأثور: «الأمور المهمّة للغد».

 ولكن ماذا في الغد؟ تقول الأسطورة اليونانيّة إنّ الأمراء الذين تفوّهوا بهذه الكلمات وهم يحتسون النبيذ ويتنعّمون بأطايب الطعام كانوا لا يعرفون أنّ الرسول الذي لم يستقبلوه حين أطلقوا هذا القول أتى كي يحذّرهم من أنّ أحدهم دسّ لهم السمّ في المأكل والمشرب. الغد بالنسبة إليهم كان الفراغ، وكان الموت. هل ستكون الفصول القادمة من حكاية الدولة مع مصرفها المركزيّ فصلاً من تراجيديا يونانيّة تخيّم عليها لعنة الأقدار؟ اليوم خمر وغداً أمر.

اليوم عاصفة في فنجان وغداً جولات قادمة ستكشف لنا الكثير من حكاية الدولة التي تترهّل فساداً وتتداعى مثل أهرامات من ورق الكوتشينا. الحاكم يدرك كلّ هذا. ولعلّه لذلك سكت عن الكلام المباح وقال أشياء كأنّها لم تكن. هو يعرف أنّه ربّما يضطرّ غداً إلى استخدام لغة أخرى، وإلى كشف ما تستّر عليه اليوم: أشياء تودي بالطبقة السياسيّة كلّها إلى قوس المحكمة، الذين يدافعون عنه والذين يطلبون رأسه. فأبقى الكلام المهمّ للغد. وهو يعرف أيضاً، وربّما يكون هذا هو الأهمّ، أنّ حاكم المصرف رغم لغته الخشبيّة، إنسان، وأنّ الإنسان ثمنه في لبنان رصاصة، رصاصة واحدة فقط. ومن يشكّ في ذلك، فليسأل أهل طرابلس…

المصدر:”المدن”