بهدوءٍ ووضوحٍ، لم يسعَ الرئيس سعد الحريري عندما قدَّمَ استقالة حكومتهِ الأخيرة للخروج من اللعبة السياسية، بل هدف إلى إخراج الوزير جبران باسيل وتصويره على أنّه هو العقبة الحقيقية نحو الإصلاح.
خالفَ الشارع الحريري حينها، عندما أعلنها جهارةً أنّه يرفض عودته إلى رئاسة الحكومة، وخالفه الواقع عندما تبيَّنَ أنّ خروج باسيل ليس هو الحلّ لأزماتِ لبنان المستفحلة. عادَ الرجل واشترطَ عدم دخول باسيل لأيّ حكومةٍ مقبلة. ردَّ الأخير أنّه لا يسعى لذلك، وأنّ أمامه ملفّات أخرى للعمل عليها.
هذا الأسبوع، أقرَّت لجان المجلس النيابي مشاريع قوانين عديدة كان باسيل قد رفعَ الصوت مرارًا من أجل تمريرها وعدم عرقلتها، فأقرَّت أولى قوانين مكافحة الفساد في عصر الجمهورية الحديثة.
سجَّلَ الرجلُ نقطةً في هذا الإطار. أمّا الحريري فسعى لتسجيل نقطةٍ هو الآخر، فخرجَ بتصريحاتٍ تهاجم باسيل وحده وتهدّد بإسقاطِ الحكومة فيما بعد. فمن أصاب اكثر، هل من قال أن عودة الآخر سيكون طريقها طويل، أمّ من اعتبر أن لا قيام لحياةٍ سياسية بوجودِ خصمهِ الجديد – حليفه القديم؟
يكشف مصدرٌ دبلوماسي لـ”ليبانون ديبايت” أنّ الحريري بذل الكثير من المساعي الجدّية لدى عدد من الدول الخارجية، أبرزها فرنسا وقطر، لإصدار مواقفٍ غير داعمةٍ لحكومة الرئيس حسان دياب، وذلك من أجل زيادة الضغطِ على الحكومة والأفرقاء المشاركين فيها، سعيًا لزعزعةِ صمودها في ظلّ إحكام الأزمة الاقتصادية قبضتها على رقابِ اللبنانيين. اعتقد الحريري أن بذلك سيمهّد هو لنفسه السجّاد الأحمر للعودة إلى السرايا الحكومي في وسط بيروت.
صدمةٌ تلقّاها الرجل على دفعتَيْن، الأولى عندما أُعلن عن اتصالَيْن تلقّاهما الرئيس حسان دياب من نظيرَيْه الكويتي والقطري. الثانية، وأتى وقعها أثقل، عندما أُعلن عن اتصالِ جان ايف لودريان وزير خارجية فرنسا بدياب، مبديًا استعداد بلاده دعم لبنان. هنا أيقنَ أن جهوده ذهبت أدراج الرياح. لم يتوقّف الأمر هنا، فحتى الساعة لم تصدر الولايات المتحدة، ولا أي نظام عربي يدور في فلكها، أيّ بيان “يشيطن” الحكومة.
بات الحريري هنا متيّقنًا أكثر، وحده في معركة إسقاطِ دياب. قد يسانده وليد جنبلاط حينًا، من دون أن يضمنَ الحريري ثبات خطّ حليفه، أمّا حزب القوّات اللبنانية ففي قلب من احتجز في السعودية هناك حقدٌ قديمٌ لم يذلّل بعد. هنا عَلِمَ الحريري أن ما من دعمٍ خارجيّ لمشروع اسقاطِ الحكومة في الوقتِ الراهن.
في هذا الإطار، يشير مصدرٌ من فريق الثامن من آذار، أن الحريري الذي رفضَ الطلب الأميركي بالتصعيدِ ضدّ حزب الله، ليس بعيدًا عمّا يحصل في الشارع ولا سيما الطرابلسي، حيث أن جولة السفيرة الأميركية أتت ثمارها من خلال محاولاتِ الجرّ نحو الفوضى ومواجهة الجيش اللبناني.ويؤكّد أنّ الأجهزة الأمنية على علمٍ بكلّ تفاصيل التحرّكات وهي تعلم بشكلٍ واضحٍ وجود عناصر حزبية تحرّك قسمٍ كبيرٍ من الشارعِ.
يراهن الحريري هنا على سيناريو الـ٩٢، ولكن اختلاف الظروف والعوامل تشير بوضوحٍ أنّ طريقه نحو السرايا الحكومية طويلٌ وضبابيٌّ.
لذلك، وتوازيًا مع ما يحصل في الشارع تشير الأجواء إلى أن تصريحات الحريري الهجوميّة الأخيرة على باسيل تهدف إلى استدراجه للردّ، لخلق تشنّج ما يعيد شدّ عصبِ الشارعِ السُنّي حول الحريري، وهو الأمرُ الذي فشل في المرّة الأولى والثانية حتى يجري الاستعانة برؤساء الحكومة السابقين و”الكومبارس” الدائم نهاد المشنوق، يفيد المصدر.
أمّا على الجانب الآخر، فلم يخرج أيّ تعليقٍ، رغم حدّة هجوم الحريري على باسيل. ينكبّ الأخير على حضور اجتماعاتٍ يومية تتابع الأوضاع المعيشية والإقتصادية، وكذلك نشاط كتلته النيابية تشريعيًا وعلى الأرض، نائيًا بنفسه عن الصراع السياسي والكيدية التي لن تأتي بأي نتيجةٍ.
مسار الأمور التقليدي في السياسة ينبّئ بأنّ كل تصعيدٍ لا بد أن يتبعه التقارب والحوار، وبالتالي مهما رفع الحريري من سقف معركته مع باسيل، لا يمكن له أن يعود من دون توافق الجميع فيما بينهم، ومنهم من تفرَّغَ الحريري بعد تركهِ لرئاسة الحكومة للهجوم عليه.
المصدر:”ليبانون ديبايت”