مع اقتراب ذكرى 25 أيار..أسباب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب..لم نكن نعرفها!..

عادت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بالذاكرة إلى عام 2000، ليميط مراسلها العسكري عاموس هرئيل اللثام عن الأسباب التي دفعت الجيش الإسرائيلي إلى البدء في الانسحاب من جنوب لبنان حينذاك، مع اقتراب ذكرى الانسحاب التي تُصادف في 25 أيار من كل عام.

خسارة ضباط بارزين
أظهرت الصفحة الرئيسية في الصحيفة الإسرائيلية يوم الثلاثاء 28 نيسان، صورة أبناء عائلة ديفيد غرانيت قرب قبره في المقبرة العسكرية في جبل هرتسل. الملازم غرانيت، ابن مستوطنة عوفرا، قُتل في اشتباك مع مقاتلي حزب الله في جنوب لبنان في شباط 1999. وكان ذلك بالنسبة إلى الدولة العبرية من أسوأ الحوادث التي تم الإبلاغ عنها على نطاق واسع في الفترة التي سبقت انسحاب الجيش الإسرائيلي من “المنطقة الآمنة” (الشريط الحدودي).

بعد أسبوع من هذا الاشتباك، قُتل العميد إيرز غريشتاين، قائد وحدة الارتباط مع لبنان، في انفجار عبوة جانبية مع جنديين آخرين ومراسل “صوت إسرائيل” إيلان روعيه. وقد أثار اشتباك دورية المظليين مع الحزب أصداء كثيرة، حيث قُتل قائد دورية المظليين، الرائد إيتان بلحسن، والملازم ليرز تيتو، بصلية نيران لحزب الله أثناء تقدمهما داخل وادٍ ضيق، فيما أُصيب غرانيت، قائد طاقم في الوحدة، عندما قفز إلى داخل الوادي.

حرب غبية
سرعت هذه التطورات في انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، والذي استكمل بعد ذلك بسنة وثلاثة أشهر. حيث يصف أحد جنود الدورية، العريف عوفر شارون، في مقابلة مع “هآرتس”، كيف تردد في النزول إلى الوادي، رغم أن قائده غرانيت دعاه للقدوم. ويضيف “عرفت أن الانقضاض الآن معناه الموت في حرب غبية، لم أتجرأ على النزول إلى الوادي لمساعدة من أُصيبوا، وعرفت أن من سينزل لن يعود، وسيطرت عليّ فكرة أنني لا أؤمن أن نكون في لبنان“.

أثارت قضية العريف شارون، الذي كان ينال التقدير لكونه جندياً متميزاً، عاصفة جماهيرية، وفي أعقابها أصدر ضابط التعليم الرئيس، اليعيزر شتيرن، ورقة توضيح للقادة أدان فيها الجندي الذي لم يهاجم. وعكست هذه الحادثة عمق الأزمة التي كان يعيش فيها الجيش الإسرائيلي، بعد غرقه في حرب استمرت 17 سنة لم يطلب منه أحد أن يحسمها وينتصر فيها.

أعاد الحجر المنزلي بسبب فيروس كورونا، نكء جراح وذكريات لبنان لدى الإسرائيليين. حيث استذكر رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، أيامه في لبنان ووصف ليلتين هناك، الأولى كجندي شاب في المظليين في عملية الليطاني والثانية كقائد لوحدة الارتباط مع لبنان، في ليلة الانسحاب الأخيرة. كما أعادت مسلسلات تلفزيونية وثائقية ومجموعة على موقع فيسبوك، نشر شهادات جنود سابقين يحكون تجاربهم في “المنطقة الآمنة”.

تغيير تدريجي
سلسلة الأحداث التي بدأت في كارثة تصادم مروحتيّن في شباط 1997 وانتهت بقتل غريشتاين بعد سنتين، أدت إلى تغيير تدريجي في الرأي العام الإسرائيلي. وقد أثرت أيضاً على قرار رئيس الحكومة إيهود باراك حول انسحاب أحادي الجانب من لبنان. وقبل باراك كان دعا إلى ذلك قائد المنطقة الشمالية في حينه عميرام لفين، الذي سعى إلى خط حازم وأكثر مبادرة في الصراع “أمام مجموعات العصابات التي شغّلها حزب الله“.

يصف ضابط إسرائيلي في حديثٍ مع الصحيفة الإسرائيلية، عميرام لفين قائلاً: “لقد أُعجبنا بعميرام كشخصية كاريزماتية وقائد عسكري. لكن الحقيقة هي أن عملياتنا ضد حزب الله لم تكن ذات فائدة كبيرة. لم نكسب أي شئ فيها سوى بعض الشعور الجيد، هذا ذكرني بإحصاء الجثث الذي قام به الأميركيون مع قتلى الفيتكونغ في عمليات ابحث ودمر في فيتنام. هذه العمليات كانت جيدة لمعنويات الجيش الإسرائيلي. ولكن إذا غابت صافرة نهاية اللعبة فلن يتغير شيء”.
وأضاف “إذا كنت لا تعرف المدة التي أمضيتها هناك وليس لديك خطة، فسيكون الفائز في المعركة هو الذي لديه المزيد من الوقت والصبر. 

حسناً، في السنوات الأخيرة من إقامتنا في لبنان، تمكنا من تخفيض نسبة الإصابات بين جنودنا، وقد عانى حزب الله أكثر. لكن ذلك لم يغير شيئاً، لأننا لم نكن نحاول تحقيق أي هدف”.
وعن ما حدث في تلك الفترة، قال الضابط الإسرائيلي “إذا كان هناك شيء أغضبني خلال تلك السنوات، فهو أن عميرام كان الشخص الوحيد الذي تجرأ على معارضة استمرارنا في البقاء في جنوب لبنان. فمعظم قادته وزملائه كانوا لا يريدون الخوض في ذلك.

بدأت مأساة جنوب لبنان بخوف السياسيين من أن الجمهور لن يوافق على الانسحاب لأنه سينُظر إليه على أنه تخلٍ عن سكان الجليل. وانتهت هذه الحرب بالضغط الشعبي، عندما تسببت حركة “الأمهات الأربع” في انسحاب الجيش الإسرائيلي. إنه قرار كان ينبغي اتخاذه في أي حال، بناءً على معطيات عسكرية وبغض النظر عن الاحتجاجات”.


ماذا أراد حزب الله؟
خلال تلك المرحلة، حاول باراك في البداية ربط الانسحاب باتفاقية سلام مع سوريا، والتي بموجبها ستُعيد إسرائيل مرتفعات الجولان. وعندما فشلت الاتصالات مع الرئيس السوري حافظ الأسد، أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي على الوفاء بوعده الانتخابي رغم أن كبار المسؤولين في الجيش الإسرائيلي وإدارة المخابرات كانوا قلقين. وحذروا من مخاطر الانسحاب من جانب واحد.

عارض رئيس الأركان شاؤول موفاز بشدة قرار الانسحاب، وباستثناء ليفين، دعم عدد قليل من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي الانسحاب. وعلى سبيل المثال، كان في المخابرات العسكرية صوت وحيد يدعم الانسحاب، وهو صوت رئيس قسم الرقابة العقيد شلومو كاشي.


وقف كاشي خلال سبع سنوات على رأس جسم صغير باسم “العكس هو الصحيح” . وقد وصف العميد احتياط عاموس غلبوع، في كتابه الذي يوثق انسحاب إسرائيل من لبنان، “شفق الصباح: القصة الحقيقية لكيفية مغادرة إسرائيل لبنان“، كاشي بالقول: “كان ضابطاً لامعاً، له تجربة بحث غنية. ورقة رقابته التي تطرق إليها باراك عرضت رؤية ثورية: حزب الله غير معني بخروجنا من لبنان، بل معني ببقائنا حتى يسفك دماءنا ويجعلنا ننزف ويعزز صورته كمحارب كبير أمام الجيش الإسرائيلي”.


في مناقشة جرت في عام 2015، أوضح كاشي: “قال لي صديقي الجنرال يوسي بيدتس إن النجاح الكبير والوحيد للرقابة هو انسحاب الجيش من لبنان قبل العام 2000. وقلت له إن حزب الله لا يريد انسحابنا من لبنان؛ الانسحاب أكبر كوارثه، وسيفقده حقه في الوجود.

انسحبت إسرائيل من خط الحدود وهذا خلق مشكلة لحزب الله. قبل بضعة أشهر من الانسحاب وصلتنا معلومات بأن الحزب يقول في الغرف المغلقة إنه ضد انسحاب إسرائيل وإنه يخاف كثيراً منه ويريد التشويش عليه. خُطط للانسحاب في 7 تموز، وتم تبكير الموعد إلى 24 أيار، لأن حزب الله خطط لإنهاء ذلك ونحن في ذروة الخسائر”. 


وفي “شفق الصباح”، اعتبر غلبوع أن قرار الدخول في لبنان “مهزلة تاريخية”، منوهاً أن “كل المواقف السياسية المرتبطة بدخول لبنان والانسحاب منه، تم اتخاذها من قبل المستوى السياسي (أريئيل شارون ومناحيم بيغن) من دون الاهتمام بتقديرات الاستخبارات العسكرية”.

صور الحرب والخيبة
يقول عاموس هرئيل أن السنوات التي سبقت الانسحاب من لبنان وبعده نُقشت في ذاكرته مثل تسلسل قصير من الصور. حيث يستذكر المستوطن اهارون برنياع يجلس في منزله بمستوطنة تحولون ويتحدث عن ابنه نوعم الذي كان عضواً في وحدة لإزالة الألغام، وقُتل في انفجار عبوة قرب موقع البوفور عشية مقتل غرانيت عام 1999.

وهو يعلق على صدره شعار الخروج بسلام من لبنان. كما يصف هرئيل كيف عبّر مقاتلو لواء جفعاتي بأن لا أحد يريد أن يكون الجندي الأخير الذي سيقتل في لبنان.
الصور التي يعرضها هرئيل كثيرة، ويذكر موشيه كابلنسكي، وقائد اللواء تشيكو تمير، يدخلان للحديث مع المظليين في موقع طيبة قبل الانسحاب (خطاب كابلنسكي الذي تكرر من موقع إلى موقع، موثق بدقة في كتاب رون ليشم “إذا كانت هناك جنة”)؛ وكيف كان بيني غانتس وقائد جيش لبنان الجنوبي، الجنرال أنطوان لحد، يتحدثان مع جنود جيش لبنان الجنوبي في موقع صغير متقدم في القطاع الغربي، وكيف أشار غانتس عند خروجه إلى أن جنديين كانا مصدوميّن تماماً.

ولعل أهم نقطة يستذكرها هرئيل هي إيرز غريشتاين، الضابط طويل القامة، الواثق من نفسه وسليط اللسان. في تموز 1998، على سطح موقع الريحان، قال غريشتاين للمراسلين إن المظاهرات من أجل الانسحاب أحادي الجانب تخلق تهديداً على حياته وحياة جنوده. وفي نهاية شباط 1999 وبعد أسبوع على موت الضباط من دورية المظليين، قُتل غريشتاين.


في ذلك المساء قال باراك، في مقابلة مع القناة الثانية، بأنه إذا فاز في الانتخابات سيسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان خلال سنة من تشكيل حكومته. وقد غير الإعلان الذي حصل على تأييد الجمهور وجه الحملة الانتخابية. وفاز باراك حقاً بعد شهرين وانتصر على بنيامين نتنياهو وأوفى بوعوده.


وفي المحصلة، كان الجندي الأخير قد خرج من لبنان في صباح 24 أيار 2000، هو بيني غانتس الذي تم توثيقه من قبل المصورين وهو يغلق البوابة من خلفه. وفي اليوم التالي نشر رسام الكاريكاتير السياسي عاموس بايدرمان رسماً يظهر ضابطاً يغلق البوابة، وللتأكد من عدم فتحها، يضع المفتاح تحت صخرة على الجانب الإسرائيلي من الحدود.

المصدر:”المدن”