كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”: هجمات الحكومة المرتدة بقنابلها الدخانية، على خلفية اتهامها بالفشل، لم تصب غير المواطنين إلا بمزيد من العمى. التمحيص في الارقام ومراجعة سنوات الهدر والفساد والتدقيق في المخالفات فرض انجزته السلطة التنفيذية، للمرة الأولى، وظهّرته في “برنامجها الانقاذي” تمهيداً للبدء بالتنفيذ. لكن النتيجة كانت المزيد من تضييع الوقت على تحقيقات نتائجها أصبحت واضحة كعين الشمس. ومن التدقيق في حسابات المصرف المركزي نبدأ.
أعطى مجلس الوزراء الضوء الاخضر للبدء بتدقيق حسابات المركزي. وللغاية ستستدرج المالية عروض ثلاث شركات لدراستها والتعاقد معها ومن الشركات الممكن ان تكلف بالمهمة هي KPMG و Oliver Wyman و Kroll. تمتلك الشركات الثلاث باعاً طويلة في اعمال التدقيق والمحاسبة، فالاولى تعتبر إحدى مؤسسات المحاسبة “الأربع الكبرى”. والثانية تعتبر من اهم شركات الاستشارات الادارية، أما الثالثة فهي متخصصة في التحقيقات.
تغييب مفوضية الحكومة
في حال تمّ التوصل الى اتفاق وبدأت الشركات الجديدة عملها التدقيقي، سيرتفع عدد الجهات الرقابية والمدققة لـ”المركزي” الى 6 حيث ستضاف الشركات الجديدة الى شركتين دوليتين هما Deloitte & Touch “ديلويت أند توش” و Ernst & Young “ارنست أند يونغ”، من دون أن ننسى طبعا الجهة الأهم المفروضة بقانون النقد والتسليف والتي تتمثل في “مفوضية الحكومة”، المعنية مباشرة بمراقبة حسابات مصرف لبنان والقرارات التي تصدر عن حاكمه ومجلسه المركزي، مع حق الإعتراض عليها ووقف تنفيذها. تلك المفوضية استعيض عنها بنصب مفوض عام للحكومة، يشغله اليوم مفوض بالوكالة بعد شغور المنصب منذ العام 2015. إلا ان هذا لا يعني، بحسب عضو كتلة الجمهورية القوية النائب عماد واكيم ان “هذا المركز لم يكن مفعّلاً على مدار السنوات الطوال الماضية. ففي يد هذا المفوض كانت موجودة كل صلاحيات المراقبة والتدقيق والمنع، وإعلام الدولة عبر وزارة المال بكل التجاوزات والأخطاء والمشاكل لحلها في وقتها”. الأخطاء في مصرف لبنان والمصارف التجارية التي لا ينكرها احد أو يتبرأ منها تعود في النهاية، بحسب واكيم، الى “السلطة السياسية الي كانت على علم بها ولم تضع لها حدّاً أو توقفها. الا ان الذي تغير اليوم هو وضع فريق السلطة الحالي عينه على المنصب، ويبدو ان الوقت قد حان للانقضاض عليه. هذه السياسة فارغة لا تبني دولة ولا تبني جمهوريات”، يضيف واكيم متسائلا: “هل يعلمون اننا لم نعد نملك ترف المناكفات وفقدنا هامش النكد السياسي؟ فإما ان نتعاون لإنقاذ الوضع وإما نحن ذاهبون سوية الى الانهيار”.
الشركتان الدوليتان الأعرق “Deloitte” و “EY” اللتان تتوليان حالياً مهام التدقيق في حسابات “المركزي” منذ فترة طويلة، تتبعان البرامج المتوافق عليها ووفق معايير التدقيق الدولية، ومن المستبعد برأي خبراء المحاسبة “الاخلال في عملهما أو تعريض سمعتهما لأي شائبة”.
فالمدقق عندما يستلم مهمته يقوم بعمليات التدقيق على بيانات مالية موقوفة في نهاية العام، أعدتها الادارة على مسؤوليتها، وسلمتها له. أما إجراءات التدقيق التي تقوم بها الشركات فتكون وفقاً للمعايير الدولية. وأعمال التدقيق تقوم في الاساس، على انتقاء العينة التي يختارها مدقق الحسابات، وليس على كامل القيود. عندما يقوم المدقق بأعماله ويضع مشروع التقرير، يعرضه على الادارة للمناقشة. إذا كان هناك من خلافات أو امور أشار اليها مدقق الحسابات، فعلى الادارة التوضيح؛ وعلى ضوء قناعة المراقب بالتوضيح يُعد التقرير النهائي، ولا يقدمة الى الادارة الا عندما توقع الأخيرة على كتاب يسمى كتاب “التمثيل”، وهو نموذج ملزم معد دولياً يقع بين 10 و12 صفحة، يتضمن اقرار الادارة بانه لم يتم اخفاء شيء عن مراقب الحسابات، وان الحسابات لا تتضمن أي غش أو تزوير أو خلافه… وعندها يسلم تقريره.
بالاضافة الى التقرير يقدم المفوض الى الادارة رسالة تتضمن كل الاخطاء والتجاوزات، وعلى الادارة بدورها ان تجيب بكتاب رسمي يبرّر الاخطاء أو يصححها.
هذه التقارير والرسائل كلها يجب ان تكون محفوظة. فلماذا لم يتم الرجوع اليها والتمحيص بها من قبل “المهتمين” قبل تكليف شركات جديدة بالتدقيق؟ هل طُلبت من الحاكم ورفض تسليمها؟ هل هي ضائعة أم مخفية أم قد جرى اتلافها؟ في حال كان الجواب بالنفي فالاجدى والأسرع والأوفر على الدولة “المفلسة” مراجعتها مع المدققين الحاليين قبل التعاقد مع شركات جديدة. أكثر من ذلك لماذا لم يجرِ تكليف شركة “ديلويت” نفسها الحالية والتي تحتل المرتبة الاولى عالمياً، بمهمة خاصة للتدقيق في حسابات محددة والخروج بنتائج تمكّن من توضيح الصورة واتخاذ الاجراءات اللازمة.
السؤال الذي يطرح نفسه، هل ستتوصل الشركات المكلفة حديثاً الى أي نتائج جديدة غير معروفة؟ وبمعنى أدق، هل ستكتشف أمراً أسوأ من تمويل الدولة وصرف أكثر من 44 مليار دولار من أموال المودعين، على عجز الموازنة والدفاع عن صرف الليرة طوال السنوات الماضية، وهل بطريقها ستزيل الغطاء عن عمليات وحسابات كبار الموظفين والمتهمين بتهريب الاموال منذ مطلع العام 2019؟ أم اننا امام معركة “بيرسترويكا” أحادية الجانب تخفي وراءها تصفية حسابات سياسية، بواسطة المهمات المحددة التي ستصوب عليها الشركات المتعاقد معها؟
هناك اليوم مهمتان كبيرتان امام المدققين، الاولى تتعلق بتدقيق ميزانية مصرف لبنان لمعرفة حقيقة الموجودات والخسائر، والاخرى ترتبط بالاموال التي سحبت من النظام. فهل سنخرج بنتائج مجدية؟
أسئلة كثيرة تتوالد من رحم تجربة مريرة، وكأن لا نهاية لها. في حين ان المطلوب اليوم أجوبة ما زالت السلطة التي تتبع أسلوب النعامة عاجزة عن الاجابة عليها.
المصدر:”نداء الوطن”