خطوات ثابتة إلى”الانهيار”!

يمشي النظام اللبنانيّ الحاليّ بخطوات ثابتة إلى الانهيار. حين يعلن رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة العماد ميشال عون أنّه آن الأوان لدخول لبنان في “عهد” الجمهوريّة الثالثة، فهو مصيب رغم الكيديّة التي يرى بعضهم أنّها تفوح من كلامه. فجمهوريّة الطائف، الجمهوريّة الثانية، هي التي طردت العماد ميشال عون من بعبدا وحالت آنذاك دون تحقّق حلمه في أن يصبح رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة كما كان يشتهي. ولكنّ ما يجنح بعضهم إلى نسيانه هو أنّ عون كان في النفي حين أجهزت جمهوريّة الطائف على الجمهوريّة الأولى، وحوّلت الدولة إلى مزرعة تحاصصيّة بين أمراء الحرب، الذين تمّ تتويجهم رؤساء كتل نيابيّة ينهشون الجبنة وينوؤون، في الوقت ذاته، تحت جزمة الوصاية، التي كانت تتعامل معهم في أفضل الأحوال وكأنّهم موظّفون من الدرجة الخامسة.

عون لديه كلّ الأسباب الشخصيّة والموضوعيّة لينعي الجمهوريّة الثانية بعد عودته المتأخّرة إلى بعبدا. ولكنّ رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ينسى شيئين:

الأوّل هو أنّ الجمهوريّة الأولى ولّت إلى غير رجعة ولن تعود، ما يعني أنّه رجع إلى بعبدا بشروط الطائف بوصفه رئيساً منتوف الجناحين بعد قصقصة معظم صلاحيّاته وإناطتها بمجلس الوزراء مجتمعًا.

والأمر الثاني هو أنّ الجمهوريّة “الثالثة”، لكي تقوم، لا بدّ لها من بنية سياسيّة تصنعها. وهذه البنية غائبة اليوم. فالمشكلة في لبنان ليست اقتصاديّة، بل سياسيّة. وحين أعلن ثوّار السابع عشر من تشرين الأوّل أنّهم يريدون حكومةً من خارج الأحزاب، كانوا يومئون إلى أنّهم فهموا هذا جيّداً. لقد سقطت البنية السياسيّة في لبنان القادرة أن تحوّل الجمهوريّة الثانية إلى جمهوريّة ثالثة.

فالندوة البرلمانيّة، التي مسؤوليّتها أنّ تشرّع وتراقب وتحاسب، تحوّلت إلى أضحوكة. والقضاء الذي يتعيّن عليه أن يحول دون غرق القائمين على مؤسّسات الدولة في وحول الفساد شبه معطّل، من تبعيّة كثير من قضاته لسادة الأحزاب، أولياء نعمتهم، وصولاً إلى انتكاسة التعيينات القضائيّة التي تثبت أنّ نزق أهل السلطة ما زال أقوى من نظريّة فصل السلطات.

أمّا حكومة حسّان دياب، فهي واقعة بين فكّين: فكّ الوقت الذي يقول إنّ مدّة الأشهر الثلاثة شارفت على الانتهاء، وفكّ خضوعها للمحاصصة السياسيّة التي أتت بها وتعيق عملها، من جهة، وكارتيلات المعارضة التي ما زالت امتداداتها الأخطبوطيّة في كلّ مكان، من جهة أخرى. لقد كان الثوّار على حقّ حين رفعوا شعار “لا ثقة”. فهذه الحكومة أثبتت أنّها شاطرة في الخطابات التهجّميّة الدونكيشوتيّة، ولكنّها لم تستطع حتّى اليوم محاكمة فاسد واحد من السياسيّين وزجّه في السجن واستعادة الأموال التي نهبها من الناس.

لقد كان الثوّار على حقّ: “كلّن يعني كلّن” لأنّهم شاركوا جميعاً في تقويض الدولة وانهيار النظام. هذا النظام انتهى لأنّ الدولة أفلست، والمنظومة الخدماتيّة التي تقوم عليها الأحزاب عبر الاستعانة بأموال الدولة لتبليع المناصرين وتوظيفهم لم تعد قادرةً على الاستمرار. لقد حان لأتباع التيّارات من جميع الألوان أن يفهموا هذا. فلبنان الذي يعرفونه والذي تعوّدوا عليه آخذ بالانهيار، ولا أحد من “الأشقّاء” و”الأصدقاء” لديه استعداد أن يضخّ فيه الدم من جديد. ما يجري اليوم في لبنان من مهزلة سياسيّة وبرلمانيّة وقضائيّة لا يليق بأن ينتسب إلى أداء جهاز ما زال يسمّي ذاته “دولة”، وطبعاً لا يليق بشعب ولا بثورة شعب انتفض من أجل كرامته. فمن يؤمّن الانتقال إلى الجمهوريّة الثالثة؟ أشكّ في أنّ رئيس الجمهوريّة يمتلك الجواب.

المصدر:”المدن”