إذا كان لا بدّ من الأخذ في الاعتبار ما نُقل في الساعات المنصرمة عن حاكم رياض سلامة، سيكون من المتعذّر التوصل إلى حل للكباش القائم بينه وحكومة الرئيس حسان دياب، وبالتأكيد رئيس الجمهورية ميشال عون
نُقل البارحة عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قوله بأنه ليس في حاجة إلى أحد في الداخل، ولا في الخارج، وفي وسعه بمفرده إعادة العافية إلى مصرف لبنان كي يقف على قدميه مجدّداً. قال أيضاً إن اتهامه بمحاولة كسر العهد أو الحكومة باطل وهراء. وهو سمع رئيس الحكومة يقول بأنه ليس الرئيس عمر كرامي كي يستقيل، وإن وصل الدولار إلى 20 ألف ليرة. بكثير من الارتياح يتصرّف سلامة وبأعصاب باردة. لا تزال أمامه ثلاث سنوات، ويتكل على ظهير أميركي.
ترافقت مواقفه هذه في الساعات الأخيرة مع بضع وقائع:
1- معلومات تردّدت عن استدعاء القاضية غادة عون إلى التحقيق اثنين من كبار المتعهدين والمقاولين المتعاملين مع الحكومة اللبنانية، فاتحة استدعاء مقاولين آخرين ذائعي الصيت، لبنانيين وغير لبنانيين، من القريبين من مراجع سابقين تثار من حولهم شبهات مهمة بإزاء صفقات مشبوهة أداروها في ظل مرجعياتهم تلك، أثروا منها على حساب خزينة الدولة في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل.
كذلك ناقش مجلس الوزراء بنوداً منها اقتراح التحقيق مع متعهدين ونواب ووزراء ثمّة شكوك في استيلائهم على مال عام وإثراء غير مشروع. وما سيكون صعباً هضمه، هو تكليف المدير العام لوزارة المال آلان بيفاني التدقيق في حسابات هؤلاء وثرواتهم، تجاوزاً لمهمة يفترض أن تعهد إلى وزير المال غازي وزني.
مجرد التفكير في إجراء كهذا، سيحمل الرئيس نبيه برّي للفور على استقالة وزيريه من الحكومة.
2- اجتماعات عقدها مراجع رسميون مع قانونيين بارزين ناقشوا مضمون المادة 19 من قانون النقد والتسليف، المتعلقة بحالات إقالة حاكم مصرف لبنان، والاعتقاد السائد – وليس ثمة قرار جدي بذلك بعد – بأن الفقرتين الثانية والثالثة المتعلقتين بالإخلال بالواجبات الوظيفية والخطأ الفادح، من شأنها إعطاء مبرّر قانوني سليم لإقالة يبقى ينقصها القرار السياسي. ليس من السهل اتخاذ قرار كهذا. إلا أن الأعراف المتبعة منذ ما بعد اتفاق الطائف التي تسمح بتفسير مرن للقوانين في أكثر من اتجاه، وأحياناً متناقضة، تدل على أن الخيار ليس مستبعداً. ما يعوزه القرار السياسي أولاً.
3- ليس خافياً أن رئيسي الجمهورية والحكومة اتفقا أخيراً، وفعلياً، على أن التدهور النقدي والانهيار شبه العام في البلاد، يُعزى في جزء كبير منهما إلى مسؤولية مباشرة لحاكم مصرف لبنان، من دون أن يكون وحده، لكن مع ضرورة تحميله التبعات. في المقابل لرئيس مجلس النواب موقف مغاير عبّر عنه في اليومين المنصرمين. قال: أكبر خطأ في حق لبنان وضع سلامة بين أحد خياري الاستقالة أو الإقالة. المطلوب أن يبقى كي يتولى بنفسه «تنظيف» ما وصلت إليه البلاد.
4- لا يزال غير معلن موقف حزب الله من بقاء الحاكم في منصبه أو إقالته. وهو في أي حال لم يوفره – كما المصارف – من انتقادات حادّة عبر حزبييه أو وسائل إعلامه، من غير أن يشي ذلك على نحو حاسم بمصير الرجل.
ليس سراً أن الحجم الكارثي الذي بلغه الانهيار النقدي وضع البلاد أمام خيارات قاسية: سقوط حكومة دياب أم سقوط الحاكم؟ والواضح في أن ما أعلنه دياب مساء أمس بعد جلسة مجلس الوزراء، والاتهامات المباشرة التي ساقها إلى سلامة وأدائه «المريب» واستعجال التدقيق في حسابات مصرف لبنان، يشير إلى أن الهوة بين الطرفين لم تعد تصلح للردم. بل إن صعوبة إقالته تعني بدورها أنه لم يعد مجرد موظف كبير، بل سلطة سياسية موازية – وليست نقدية فحسب – يتسلح لحماية نفسه بمَن هم فوقه من كبار القوم، ومَن هم تحته ممن أحاط نفسه بهم.
وكما من الصائب القول بأن حكومة دياب لا تسقط بلا موافقة حزب الله، وهو لما يزل في حاجة ماسة إلى وجودها ووجود رئيسها بالذات، كذلك سقوط سلامة يقتضي أن يمر بغطاء من الحزب. لا تكمن المشكلة في الآلية، وستكون سابقة في تاريخ الحاكمية إذا حصلت. المعضلة الفعلية تقيم في رد فعل الخارج الغربي، وخصوصاً الأميركيين بإزاء إطاحة صديقهم حاكم مصرف لبنان. البعض غير الناصح بقرار كهذا يسأل من باب الافتراض: ماذا لو ردوا بطلب وقف التعامل مع النظام المصرفي اللبناني؟
ثلاثة مرشحين محتملين للحاكمية، إلا أن الإقالة ينقصها القرار السياسي المتعذّر
5- ليس سراً أن لدى العهد ثلاثة أسماء محتملة لخلافة سلامة في حال أطيح، هم الوزير السابق منصور بطيش والمدير العام لوزارة المال آلان بيفاني والمستشار الاقتصادي شربل قرداحي. بيد أن الثلاثة يدورون في فلك واحد هو رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، ما يفتح الباب على أكثر من عائق ومانع:
أولاً، هو الحاجة إلى «بروفيل» للحاكمية يطمئن الغرب والأميركيين إلى السياسات التي سيتبعها على غرار ما كان يفعل سلامة، وخصوصاً ما يتعلق بالعقوبات الأميركية على حزب الله ومراقبة أداء المصارف، كي تبقى داخل النظام المالي الدولي. ذلك يعني أن على الخلف المضي في السياسات المصرفية المتبعة حالياً حيال الخارج.
ثانياً، إن من الصعب «هضم» حاكم جديد لمصرف لبنان يمثل فريقاً سياسياً نافراً في الاشتباك الداخلي، ما يقتضي موافقة مجلس الوزراء على تعيينه. الأهم هو القرار السياسي بالموافقة على مرشح.
لعل السؤال الأهم: هل يؤتى بحاكم نقيض من الحاكم الحالي يفكّ الارتباط مع القوى السياسية التي كان سلامة الشريك الفعلي لها؟ الحافظ أسرارها وارتكاباتها والتواطؤ المتبادل في جني الأرباح والثروات الطائلة وتقاسم المكاسب والتسبّب في الانهيار النقدي وإفلاس الدولة والفساد.
6- في ضوء ما سمعه رئيس الحكومة من الحاكم في اجتماعهما الأخير، وتذرّعه بافتقاره إلى العملات الصعبة، أحجم عن استجابة طلب دياب التدخل لأسبوعين فقط في السوق، بغية وقف انهيار الليرة اللبنانية، إذ يدرك دياب أن الاحتياط المتبقّي في المصرف هو 19 مليار دولار ما يتيح استعمال 75 مليون دولار فقط كافية لإحراق أصابع الصرّافين المتلاعبين بسعر العملة الخضراء، يعِي أيضاً أن هؤلاء هم الزبائن اليوميون للحاكم. في كلمة البارحة كاد أن يقول إنه أبو الصرّافين.
المصدر “الأخبار”