سقط رياض سلامة! واقعان أعفياه من مسؤولياته وأحالاه الى المحاسبة حتّى لو لا يزال الرجل الرقم الأصعب والأكثر حماية في الجمهورية المنهارة: الأول سقوط الليرة الذي لا يعني سوى سقوطه ومعه منظومة حكم سياسية مالية اقتصادية، والثاني واقع المحاكمة الشعبية له في الشارع والتي توّجت بمحاكمة علنية للمرة الأولى في تاريخ لبنان يجريها رئيس حكومة بحق حاكم مصرف لبنان.
بقاء “الحاكم بأمره” في مكتبه حتى اللحظة ليس سوى نتاج تمسّك قوى سياسية ببقائه والدفاع عنه حتى الرمق الأخير، وإرادة اميركية واضحة بعدم المسّ برجل واشنطن الأول يلاقيها العجز الحكومي عن إقالته.
ما بين الشقوفين تجهد حكومة حسان دياب للخروج سالمة من معركة الإجهاز عليها بسلاح إرتفاع سعر صرف الدولار. بالطبع حسان دياب ليس عمر كرامي، ومناخات 1992 لا تشبه بشئ أزمة عام 2020، لكن الحكومة تتحرّك ضمن بيئة معادية لا تبدأ بقوى سياسية ساهمت بوصولها ولا تنتهي بمافيا التلاعب بالإستقرار المالي والنقدي.
على رغم تفرّع عناوين الأزمة القائمة منذ تسلّم حكومة دياب ثمّة من أضاف عنوانًا أكثر تعقيدًا: الحرب بين رئاستيّ الجمهورية والحكومة ورئيس المصرف المركزي. كلمة رئيس الحكومة غير المسبوقة بحق الحاكم “القوي” دشّنت معركة مواجهة يصعب معها استبعاد التأثير الخارجي في حسم النتيجة في ظل عملية تدقيق مالي تجري للمرة الاولى في حسابات “مغارة” المركزي.
لا يزال مؤيّدو سلامة يجهدون في مرافعاتهم لإظهار براءة حاكم مصرف لبنان من كل الاتهامات المساقة بحقه. إن كان أصلًا مسؤولًا فليس وحده بالتأكيد، أما الهندسات المالية، تهمته الأكبر، فقد أدّت الى تكوين احتياطاتٍ هائلة دعمت الليرة ورفعت رسملة المصارف ما ساعد في توفير الدولارات بأسعار متاحة ومقبولة، والأهمّ أن المال العام لم يستخدم فيها ومن يطالب بإعادة أموال الهندسات فيعني ان على الدولة ان تدفع نحو مليار دولار للمصارف ومصرف لبنان.
ويتساءل هولاء “هل مصرف لبنان مسؤول عن سياسات الاستدانة التي اعتمدتها الحكومات وصرف الموازنات، والمسؤول عن حشو القطاع العام بجيوش من لا عمل لهم، وبسوء تقدير كلفة السلسلة وعدم تحفيز النمو الاقتصادي؟ وهل يتحمّل وحده تبعات تهافت اللبنانيين على سحب أموالهم بعد تحرك 17 تشرين؟… وهل يمكن أن يلعب الدور نفسه الذي كان يلعبه في السابق بضخّ الدولارات في السوق لحماية الليرة في ظل واقع تناقض موجودات مصرف لبنان كقدرة نقدية جاهزة للتصرف بها الى 30 مليار دولار؟. فهل يريد هؤلاء أن يحرم اللبنانيون من القمح والبنزين والأدوية؟”.
المعسكر المقابل يملك ما يلزم من أسلحة لإدانة الحاكم مع شبكة مالكي المصارف في “تصفير” الودائع ومراكمة ثروات على حساب اللبنانيين و”كشف” ظهر الدولة وتحويل المليارات الى الخارج بعد 17 تشرين.
رياض سلامة اليوم في قفص الاتهام الحكومي. بدأ الأمر بشكل رسمي في نهاية آذار الفائت من مجلس الوزراء بطلب إجراء عملية تدقيق محاسبية مركّزة لتبيان الأرقام الدقيقة لميزانية المصرف المركزي، تلا ذلك تضمين الخطة المالية للحكومة الخسائر المتراكمة في النظام المالي للمرة الأولى في تاريخ لبنان. حدث ذلك في ظل رفض سلامة المستمر التصريح بحقيقة موجودات المصرف المركزي وتحت سقف واقع مرير “لا الليرة بخير ولا الودائع بخير”. هي التطمينات الكلاسيكية لحاكم أدمَن على تطمين اللبنانيين الى حدّ تخديرهم، لكن مفعول الإبرة انتهى والشارع يتحضّر لتحرّك قد لا تحدّه سقوف، والحكومة جاهزة لوضع رياض سلامة عند حدّه.
جلسة بعبدا لم تكن عادية. خرج منها دياب شاهرًا سلاحًا لم يستخدمه أي رئيس حكومة سابق، محمّلًا حاكم مصرف لبنان مسؤولية خراب البصرة، متحدّثًا بوضوح عن دوره في إظهار مصرف لبنان إما عاجزًا أو معطّلًا بقرار أو محرّضًا على التدهور الدراماتيكي في سعر العملة الوطنية”. وهو اتهامٌ خطيرٌ تترتّب عليه محاسبة بالقانون وتتضاعف أهميته مع تذكير دياب من يعنيهم الأمر أن صلاحيات الحكومة محدودة ومن يتولى السياسة النقدية للدولة هو حاكم مصرف لبنان، متّهمًا إياه أيضًا “بكتم المعلومات” عن الحكومة واللبنانيين.
وبتأكيد دياب أن “هناك فجوات كبرى في مصرف لبنان في الأداء والاستراتيجيات والصراحة”، ذهب بعيدًا بـ “كشف” مدى تورّط الحاكم في سياساته الخاسرة بالإعلان أنّ “المعطيات التي بين ايدينا تكشف أن الخسائر المتراكمة في المصرف تتسارع وتيرتها وقد ارتفعت 7 مليار دولار منذ بداية هذا العام، وبأن الارقام تكشف خروج 5,7 مليار دولار من الودائع من المصارف اللبنانية خلال كانون الثاني وشباط من هذه السنة”. حدث ذلك، فيما اللبناني كان يشحذ المئة دولار من المصارف، واليوم يضطر الى قبضها بالدولار على سعر صرف بفارق نحو 1500 ليرة اقلّ من سعر السوق السوداء!
بدت الرسالة الحكومية توازي فعل الاقالة التي تحوّلت الى مجرد فشّة خلق في جلسة مجلس الوزراء أطلقها رئيس الجمهورية وأيّدها رئيس الحكومة وفريقيّ التيار الوطني الحر وحزب الله. والتكملة منتظرة في قرارات الحكومة الأسبوع المقبل في سياق استرداد الأموال المنهوبة والمحوّلة الى الخارج.
لم يعد رياض سلامة معجزة في تثبيته سعر الصرف على 1500. صار معجزة في “تفريخ” التعاميم لتنتج سوق هلع حقيقي بدولار يحلّق وعد يومًا أن لا اقتصاد من دونه، ومعجزة دفعه وزير مال الى الإقرار بأن ارتفاع سعر الدولار لا يمكن شرحه اقتصاديًا وماليًا ونقديًا، ومعجزة موجودات في مصرف لبنان بقيت بمنأى عن المراقبة المحاسبة نحو عقدين، مع العلم أن وزير المال السابق علي حسن خليل أكد قبل استقالة حكومة سعد الحريري الأخيرة أن مصرف لبنان كان يقدّم لوزارة المال سنويًا قطع الحساب المتعلق بماليته.
المصدر:”ليبانون ديبايت”