كورونا يقضي على أوكار المخدرات بمخيم برج البراجنة والضاحية
عامان عاش خلالهما سكان مخيم برج البراجنة الخمسة وأربعون ألفاً مأساة حقيقية. رأوا مخيمهم يتحول إلى سوق للمخدرات، مفتوحة أمام الشباب في المخيم، ومقصداً للمناطق المجاورة وحتى البعيدة. إلى أن جرى القضاء على تجارة المخدرات في ساعات قليلة، وتسليم تسعة من أكبر تجار المخدرات في المخيم إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية، وفرار أربعة آخرين. فمتى نشأت هذه الامبراطورية، وكيف جرى تدميرها؟
المروّجون الصغار يتحوّلون تجّاراً
حتى قبل عام 2018، كانت شكوى سكان مخيم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية، تقتصر على وجود بعض المتعاطين، والمروّجين الصغار الذين يقتصر عملهم على بيع المواد المخدّرة لمتعاطيها في المخيم. في ذلك العام نشطت الأجهزة الأمنية اللبنانية في ملاحقة تجار المخدرات في لبنان بشكل عام، وبيروت وضواحيها بشكل خاص، وقتلت عدداً منهم.
بحث التجار عن مكان لا يخضع مباشرة لسلطة الدولة اللبنانية، يصرّفون فيه بضاعتهم. اختاروا مخيم برج البراجنة لقربه من الثقل السكاني في الضاحية وجبل لبنان. وحيث لا توجد سلطة أمنيّة موحّدة منذ سنوات، أولاً لعدم وجود تفاهم فصائلي نهائي حول تشكيلها، وثانياً لأن اللجنة الأمنية التي شُكلت قبل سنوات، كانت تفقد أهمية دورها شيئاً فشيئاً نتيجة ملاحقة الأجهزة الأمنية اللبنانية لعدد من عناصرها بتهمة “تشكيل عصابة مسلّحة”، وسجن بعضهم، بعد أن قاموا بمداهمة بعض مروّجي المخدّرات، الذين لم يكونوا قد اكتسبوا صفة تجار بعد. وهو ما أوجد شكوكاً لدى بعض السكان في المخيم حول الهدف من ملاحقة العناصر الأمنية الفلسطينية.
المروّجون الصغار الذين كان همّهم تأمين بعض المال لتغطية ثمن المواد المخدرة التي يتعاطونها، صاروا أصحاب الأموال الجدد في المخيم. صنّعوا المخدرات في ورشهم الخاصة بعد أن وجدوا من يمدّهم بالآلات والمواد الخام المطلوبة. من كان منهم يسكن بيتاً بالإيجار، صار يملك مبنى كاملاً، ومحلات، وغير ذلك. بل استغل ثروته المستجدة، ووزّع بعض العطايا على الفقراء، ثمناً لمستقبل أبنائهم. أراد أن يغيّر لقبه من “تاجر مخدرات” إلى “محسن كبير”، لكن بقي قاتلاً في نظر الغالبية الساحقة من السكان، الذين ظلوا يطالبون بتسليم التجار للأجهزة الأمنية، رغم التهديدات التي كان يطلقها هؤلاء التجار.
قدر كورونا
الأثرياء الجدد، الذين يُقدّر الإيراد الشهري لكل واحد منهم بما لا يقل عن 40 ألف دولار، أرادوا أن يفرضوا سطوتهم الكاملة. يطلقون النار يومياً من أسطح بناياتهم. يعتدون على الجيران، لترتجف قلوب بقية الناس. صارت لهم مربعاتهم الأمنية، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. أحد هؤلاء التجار وضع 54 كاميرا في محيط منزله. بيوتهم مقصداً لمئات الشباب والفتيان وحتى الأطفال، من داخل وخارج المخيم، بحثاً عن مواد مخدّرة. يطلقون الشائعات عن مساندة يتلقونها من مسؤولين لبنانيين. صدّقهم الجمهور. أصبحوا القوة الجديدة، اعتبروها المكانة الاجتماعية التي تعوّضهم عن سنوات قبعوا فيها في هامش المجتمع.
13 تاجراً رئيسياً كلّما تمددت سطوتهم بالمخيم، تقلّص نفوذ الفصائل الفلسطينية، فيزداد النقد الموجّه إليها من الفلسطينيين في المخيم، مباشرة، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تشعر الفصائل بالحرج.، تتواصل مع الأجهزة الأمنية اللبنانية لتحظى بالغطاء الأمني لمواجهة تجار المخدرات، فلا تحصل سوى على بعض الجمل العائمة.
جاء “كورونا” إلى لبنان. أُعلنت التعبئة العامة. انكمش البشر نحو أقفاصهم الإسمنتية. نشرت الفصائل الفلسطينية عناصرها عند أبواب مخيم برج البراجنة، لمنع الدخول والخروج من المخيم بعد الغروب تخوّفاً من الفيروس الجديد. المئات الذين يردّونهم ليلاً، فضحوا حجم تجارة المخدرات. هنا اتخذت الفصائل قراراً جريئاً، بنشر عناصرها ليلاً نهاراً. هدّد تجارُ المخدرات. حاولوا إمداد زبائنهم من خلال طرق فرعية. فاتخذت الفصائل قراراً آخر بإغلاق 12 مدخلاً فرعياً. هنا أصبحت المعركة بين تجار المخدرات والفصائل الفلسطينية حتمية.
الغضب الشعبي
لم ينهزم تجار المخدرات. راحوا يتحرّشون ببعض العناصر الأمنية. يطلقون النار في الهواء يومياً. فيتضاعف الحنق الفصائلي على هؤلاء التجار. المخيم كله كان يتوقع اقتراب لحظة الصدام. جاءت تلك اللحظة حين قام أحد التجار باعتراض طريق امرأة لبنانية وابنتها، وأجبرهما بقوّة السلاح على تسليمه الأموال التي كانت بحوزتهما بعد أن شاهدهما تتلقّيان مبلغاً مالياً بقيمة سبعة ملايين ليرة من تاجر دخان. ثار بعض السكان. توجّهت إلى بيت المطلوب قوة شُكّلت على عجل من كل الفصائل الفلسطينية، من دون ممانعة من عائلته.
كان غضب الأهالي والفصائل قد بلغ ذروته، فجرى استثمار اللحظة، وتمت مداهمة بيوت تجار المخدرات، واعتقال تسعة منهم، وفرار أربعة آخرين. اقتيد المعتقلون إلى مقر القوة الأمنية. لكن لماذا حصلت عملية التسليم من دون إراقة دماء؟ الأرجح أن هؤلاء التجار اعتقدوا أنهم ذاهبون للتوقيع على تعهد بعدم الإتجار، ثم يُطلق سراحهم، كما جرت العادة. متجاهلين اختلاف الظروف.
فالغضب الشعبي بلغ ذروته، وعبّر عن نفسه من خلال بيان لاتحاد الروابط الأهلية والمؤسسات، يطالب بتسليم المعتقلين من تجار المخدرات إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية. كما أنه فات هؤلاء التجار أن الفصائل، ومن المرات النادرة، بدت موحّدة في تحرّكاتها. يُضاف إلى أن الأجهزة اللبنانية كانت متعاونة هذه المرّة لاعتبارات عديدة، منها تهديد لبنانيين بقوة السلاح داخل المخيم. هذه العوامل قادت إلى تسليم تسعة تجار مخدرات إلى الأجهزة اللبنانية المختصة.
اتهام “الموساد”!
قائد الأمن الوطني الفلسطيني في بيروت العميد يوسف غضية يعتبر في حديثه لـ”المدن” أن النجاح هو للجميع “وقد تضافرت عدة عوامل قادت إلى هذا النجاح، أهمها الوحدة في الميدان بين جميع الفصائل، والتصميم والانضباط الذي تمتعت به العناصر الأمنية أثناء عمليات المداهمة والاقتحام. العامل الثاني الذي لا بدّ من التأكيد عليه هو التفاف الروابط والمؤسسات والفاعليات حول القرار الفصائلي بضرورة إنهاء هذه الظاهرة التي تسيء إلى سمعة مخيمنا وشعبنا”.
وحول تجار المخدرات الفارين قال “إن هناك أربعة تجار فارين. لكننا نعمل طوال الوقت، على محاولة تحديد الأماكن التي يمكن أن يلجأوا إليها. وهناك جهد كبير في هذا المضمار. قمنا بإزالة الكاميرات حول بيوتهم، في رسالة واضحة إليهم، بأن مهمتنا لم تنته بعد. ولا رجوع عن الخطوات التي حققناها معاً، فصائل ومجتمعاً أهلياً. رسالتي للجميع: نحن كفصائل لن نقف عند هذا الحد. كل ملفات الفساد مفتوحة الآن. وعلينا محاربتها، وجعل مخيمنا نموذجاً لكل المخيمات الأخرى”.
من جهته، المسؤول السياسي لحركة (حماس) في بيروت علي قاسم شدد على دور “الوحدة الفصائلية التي قادت إلى هذا الإنجاز. ولو كان هناك تردد من فصيل أو أكثر لما استطعنا تحقيق هدفنا باعتقال تجار المخدرات، الذين حاولوا إعطاء صورة سيئة لمخيم قدّم الكثير من التضحيات والنماذج على الصعد كافة. لكن ردّ الفعل الفصائلي والشعبي أعاد الصورة المشرقة لمخيمنا إلى سابق عهدها، في نظر الجميع. وخصوصاً أبنائه الذين استعادوا الثقة بأنفسهم من جراء هذه الخطوة”.
وأشار قاسم إلى إمكانية “تورّط جهات معادية لشعبنا في قضية ترويج المخدرات. فنحن كفصائل فلسطينية نرصد منذ فترة طويلة هذه الظاهرة، ولفتتنا الأسعار المتدنية للمخدرات داخل المخيمات، مما أثار الشكوك حول احتمال تورط جهات معادية كالموساد في ترويج المخدرات”. وجدد التأكيد على تصميم الفصائل مجتمعة على إكمال الطريق حتى الانتصار النهائي على هذه الظاهرة.
رغم الارتياح الكبير التي أحدثته خطوة اعتقال تجار المخدرات، إلا أن هناك من يترقب، ويقول إن الثعلب عندما يقع بالشرك، يعض قدمه حتى يقطعها، لينجو بنفسه ويستعيد قوته، وربما فعلت مافيا المخدرات الشيء نفسه في مخيم برج البراجنة. لكن تبدو أكثرية السكان جازمة بأن ما قُطع هو رأس الثعلب وليس قدمه.
المصدر:”المدن”