المقاومة خيار جغرافي أم قدر تاريخي؟

يقول الفيلسوف العربي مالك بن نبي إن: “الإنسان هو المحور الذي يدور عليه الواقع، منه المبدأ وإليه ينتهي، وهو مقياس الحضارة”. إذ لطالما شكّلت القيم المرتبطة بالإنسان القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها أنظمة الحكم، وتلهم الحكّام كيفية إدارة الدولة والمجتمع من أجل تحقيق العدالة للشعب، وتحدّد المباني اللازمة التي تنظّم علاقة الأفراد بعضهم ببعض داخل هذه الدولة والمجتمع، ومع غيرهم من المجتمعات والدول..

إنّها قيم الحق والخير والجمال، تأخذ بالفرد نحو الارتقاء الحضاري المرتبط ببناء الأمم في ضوء مبادئ الحرية والمساواة والعدل، ومناصرة الحق ونشر الخير ورفض الباطل ومقاومة الشر.. وهي التي تعبّر عن أهداف البشر وتوجّههم لبلورة اختياراتهم وتحديد سلوكهم على أسس أخلاقية تحترم الإنسان، من دون تمييز في الجنس والعرق واللون والدين، وغيرها من الصفات التي لا تنقص من إنسانية الفرد إلا بمقدار ما يلتزم بهذه القيم السامية التي تميّزه عن البهائم والجماد.

إنّها القيم المعنوية التي تتعلق برفض الظلم ومواجهة الاحتلال ومقارعة الاستبداد، وبما أنّها قيم شاملة لكل البشر، وحاكمة على سلوك الناس يصبح من الواجب على كل فرد الانتصار لحق الشعوب المظلومة، ودعمها لاسترداد حريتها المسلوبة، وتمكينها من تقرير مصيرها. وإذا سقطت هذه القيم؛ يصبح العالم محكومًا بنظام الجشع المقترن بالقتل والإجرام واستباحة الأرض وإهدار كرامة الإنسان.

كما القيم كذلك المقاومة، طبيعة فطرية مجبولة بأصل التكوين الإنساني، فالهدف الأول بيولوجيًا حماية الجنس البشري من الأمراض ومواجهة أي فيروس مؤذٍ وطرد أي كائن غريب يحاول الدخول إلى الجسم. وكلّما كانت المناعة قوية كان الإنسان سليمًا معافى قادرًا على الحركة والفعل، وصون قيمه المادية والمعنوية.. ولكن أين نحن اليوم من هذه القيم والعالم بأسره يتآكل ويتحارب ويتحضّر للانفجار الشامل؟!

تكمن المشكلة الجوهرية في تحديد المنظور الذي يحدّد ماهية هذه القيم والمعيار الذي تقاس به، تبعًا للأهداف المتعلقة بها لتشريع الأفعال التي تسوّغ قتل الإنسان وتشويه طبيعته السامية، وقوننة استعباده وسلب حريته واحتلال أرضه، واستخدام الإرهاب أداةً لترويع الأنظمة والشعوب. وكل ذلك بذريعة نشر السلام والديمقراطية وتحقيق العدالة في العالم!! وأي سلام هذا يُبنى على سفك دماء البشر؟! وأي ديمقراطية هذه بوضع الأصفاد في أيدي الناس وزجّهم في المعتقلات؟! وأي عدالة هذه وهناك شعب يعاني حرب الإبادة والتشريد واحتلال أرضه وتهجيره لتوطين جماعات استُقدمت من أنحاء الأرض خدمةً لمشروع الهيمنة الأمريكية في المنطقة؟!

إنها قصة فلسطين الدولة والشعب، كما قصة الدول والشعوب العربية التي تعاني، منذ أواخر القرن الثامن عشر، بسبب جرثومة زرعها الغرب لتتكاثر وتنتشر، وممنوع على الأمّة أن تكافح وتقاوم لطردها من جسدها، بل إن الحصار الجرثومي أدّى إلى تشتيت الدماغ وجعله أقسامًا منفصلة، فانشغل كل قسم منه بمراوغة جرثومة من هنا وجرثومة من هناك، وبات كل قسم يتذرّع بالضعف وعدم القدرة على إعانة القسم الآخر، فتشتّت تركيزه الموحّد حتى بدأ الجسد ينهار قطعة قطعة.

هذا ما حصل ويحصل لعالمنا العربي اللاهث نحو التطبيع مع الجراثيم، فلا وحدة قرار ولا وحدة قيادة، ولا دماغ واحد يدير المواجهة، لا بل إن أقسامه المفكّكة صارت عاجزة عن تحديد هوية الخطر ومنشئه، وصار لكل قسم عرقه ولونه وطائفته وحدوده ومصلحته الخاصة، وبات مستعدًا لاستعداء أقرانه بذريعة حماية ذاته.

ظلّت فلسطين دهرًا طويلًا، وما تزال، تكافح الجرثومة التي داهمتها في العمق وفي القلب، وشيئًا فشيئًا تراجعت أقسام الدماغ العربي الباقية عن المبادرة إلى المساعدة، حيث إن القيم المادية تفوّقت على قرينتها المعنوية، ولم تعد الشعارات “الجامعة” تعبّر عن نفسها، بل إن الهوية الأصلية التي انبثقت عنها الأهداف السامية في الاستقلال والحرية والحق والتآزر والدفاع المشترك ارتدت لبوسًا آخر.. فبات مبدأ الالتحاق والتبعية وتسليم مقاليد القرار هو الاتجاه السائد، والعذر: لماذا نكابد الخطر فيما نستطيع عقد صلح مع الجرثومة؟! ولكن السؤال: هل ستقنع هذه الجرثومة بحدودها دون أن تنتشر وتتغلغل إلى الأنسجة وتحوّل الجسد إلى مضيف لها؟!

هكذا هي القضية.. وهكذا هي المقاومة بقيمها المعنوية وأسلحتها المادية التي تحمي الجسد وتقاوم الجراثيم وتطردها.. حقيقة لا تخضع للتغيير وليست قابلة للتحوير، لا عرق لها ولا لون ولا طائفة تميّزها أو تحدّدها أو تحدّ من قيامها لنصرة الحق الإنساني بالدرجة الأولى، فكيف إذا كان لهذا الحق انتماء عروبي وإسلامي؟! وكيف إذا كان وعي هذه المقاومة، ومنذ ما قبل القرن الثامن عشر، يحتّم عليها قرار الممانعة والمواجهة حمايةً للهوية والوجود وصيانةً للقرار الحر والمستقل؟! وكيف إذا كانت هذه المقاومة قد تعاظمت اليوم حتى صارت محمية بمحور جامع قادر على ضرب الجرثومة ومنشئها في العمق؟! إذًا فإن إبراء جسد الأمّة أصبح مسألة مرتبطة بثلاثة عوامل رئيسية تحتاج إلى الوقت وهي: تنامي القوة، دوام الصبر، الإصرار والمتابعة.

إن المقاومة تاريخياً في فلسطين ولبنان، وحالياً في اليمن والعراق وفي كل مكان في هذا العالم، التي تَثبُت على انطلاقها من قيمها الإنسانية ستجد نفسها بالضرورة في بوتقة واحدة، وأي فرد يؤمن بهذا المعطى سيجد نفسه مدفوعًا إلى الالتحاق بجبهة المواجهة أينما كانت، فالمقاومة ليست خيارًا مقيّدًا بحدود جغرافية فرضها الاستعمار، بل هي قدر تاريخي – أخلاقي فرضه قانون الحق والخير والجمال، وعلى منوال رينيه ديكارت ومقولته “أنا أفكر إذن أنا موجود”، تصبح المقولة: “أنا أقاوم إذًا أنا موجود”.

خاص مناشير