الحديث عن فلسطين حديث عن التاريخ بكل مندرجاته الزمنية، لا يتوقف عند مكوّناته في الجغرافيا والسياسة والطبيعة وحدود الوطن والمواطنة وما إلى ذلك من مقوّمات الكيان الوجودي للإنسان، فهي الجذر التأريخي لكل الأوطان الراسخة، وهي محط الأديان حجّت إليها الشعوب بألوانها البشرية، وإليها زحفت الممالك والجيوش، وعلى أعتابها تكسّرت أطماع الناهبين، فكانت فلسطين أصل الهوية وعنوان القضية.
وفي محضر التاريخ الفلسطيني تتشعّب الحروف وتختلط فصول التدوين بين الحديث عن محطات الإنتصار أم منزلقات الانكسار، وبين الحديث عن خيارات التسوية أم عن خيار المقاومة الذي نصّب الفلسطيني في مقام “الأستذة”، فأن يُقال إنك فلسطيني يعني أنك أستاذ في الكفاح وأنك صاحب النهج في سيرة المواجهة.
وتتوالى الأسماء الكبيرة في سجل النحت العميق لتلمع حروف المجد بين أخاديد الصخر من القدس والخليل وبيت لحم ونابلس وأريحا لينطلق شعاع الوطن إلى غزة وجباليا ودير البلج وخان يونس، وما بين الذراعين امتداد إلى حدود العناق مع جنوب لبنان والطيف المحلّق على شاطئ الحضارة صوب يافا وحيفا وعكا.
حيثما تحلّ في فلسطين حكاية مترابطة الفصول، فمنذ أن بدأت قوافل المستقدمين الصهاينة تتوافد إليها العام 1882 لتعتدي إجراماً وتسترق أرزاقاً وتهيمن على ممتلكات وتنشئ استيطاناً، بدأت تباشير الصراع تتراكم حتى تفجّرت في العام 1886 مواجهات على أرض الخضيرة والملبس (مستوطنة بتاح تكفا أول مستعمرة صهيونية أقيمت على أرض فلسطين) حيث هبّ الفلاحون لاسترجاع حقوقهم بالقتال والتصدّي للسماسرة اللبنانيين من آل سرسق منعاً لبيع أراضيهم.
كان الصراع في حقيقته ضد المحتلين الانكليز مع بداية الانتداب البريطاني عام 1917، الذين أمّنوا خلفية دعم ودرع حماية للصهاينة، وبدأت المواجهات أولاً مع انتفاضة موسم النبي موسى في الخليل وتوسّعت لاحقاً إلى القدس ثم إلى باقي المدن الرئيسية، ومنذ ذلك الوقت تكرّست القدس كمحور لعنوان الصراع، فاحتفل الصهاينة في العام 1928 عند حائط البراق، ليأتي الرد بتأسيس الحاج أمين الحسيني “جمعية حراسة المسجد الأقصى”، ثم انطلقت “عصبة الكف الأخضر” التي تشكّلت من مجموعات مسلحة عملت على تنفيذ هجمات ممنهجة على جموع المستوطنين المسلّحين.
لم تجد المقاومة الفلسطينية نفسها كتنظيم منسّق إلا مع العام 1935 مع الشيخ عز الدين القسّام الذي فجّر الثورة الكبرى من جنين وأعلن الإضراب الشامل، ونظّم صفوف المقاتلين معتمداً أسلوب حرب العصابات، وأشرك الفلاحين لصدّ الاجتياح الاستيطاني، وخلال عامين انتشرت الثورة بقياداتها ومواقعها في أصقاع فلسطين كلها، ونفّذت خلالها حوالي عشرة آلاف عملية عسكرية ونجحت في فرض سلطتها على مساحات واسعة من الأرياف والمدن، أما الاحتلال البريطاني فقد تغوّل في ممارسات القتل والتدمير وعمليات الدهم بحثاً عن المقاومين ومصادرة أسلحتهم وأنشأ لذلك 14 معتقلاً.. ما أشبه الأمس باليوم مع الاحتلال الصهيوني.
خاض الفلسطينيون معاركهم آنذاك على ثلاثة محاور، الأول: ضد المستوطنين الذين توافدوا كالجراد إلى القرى الفلسطينية، الثاني: ضد الاحتلال البريطاني، والثالث: ضد تخاذل بعض الأنظمة العربية التي قايضت على حق الفلسطينيين، وتركت المقاومين وقادتهم دون مدد أو عدد، فيما بلغ عدد الصهاينة أكثر من 150 ألف مسلّحاً مدرّباً على القتال في المعسكرات البريطانية، فضلاً عن دعم ضخم من السلاح والذخيرة، حتى وقعت النكسة الأولى في العام 1948 بإعلان الكيان الصهيوني وقبل ذلك صدور قرار التقسيم من الأمم المتحدة رقم (181) عام 1947.
لم يستسلم الفلسطينيون وواصلوا ثورتهم مع القائد عبد القادر الحسيني، الذي ورث عن أبيه الشهيد موسى الكاظم بك عداءه للإنكليز ومعارضته لوعد بلفور، وختم عبد القادر تاريخه النضالي الحافل بمعركة قرية القسطل عام 1948 بعد أن خذله العرب الذين لم يرغبوا بمواجهة مع بريطانيا، ولم يفلح بأن يؤمن الدعم العسكري اللازم لمواصلة القتال، بل لقي تثبيطاً ونصيحة بترك أمر معالجة قضية فلسطين لجامعة الدول العربية، وحول ذلك ترك عبد القادر وثيقة للتاريخ بخط يده جاء فيها: “..أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين”، وبنصف كيس من الرصاص قاد الحسيني المعركة وكاد أن يحرّرها بدعم فلسطيني صرف لولا الإصرار العربي على التخاذل، فأطلق صيحته المشهورة: “نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين.. سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم”.
وقعت النكبة واستقر الصهاينة على أرض فلسطين كـ”دولة” كاملة الدعم والتجهيز من بريطانيا ولاحقاً من الغرب كلّه وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وتلت النكبة نكسة ونكسات، وسارت فلسطين على وقع نوعين من النبض المتحرك، الأول: نبض المقاومة، والثاني: نبض التفاوض ونسج خيوط التسوية. تجدّد الأمل الفلسطيني مع تأسيس منظمة التحرير بقيادة أحمد الشقيري وبعده ياسر عرفات، ولكن جمع الفصائل الفلسطينية الذي كتب نصر معركة الكرامة عام 1968 لم يستطع تثمير هذا الانجاز واستعادة ما خسرته فلسطين من قضم شرّعته الأمم السائرة خلف واشنطن بقرار التقسيم، بل تقزّم الحلم في اتفاق “أوسلو” (غزة – أريحا) دون أن يجد طريقه إلى التطبيق إلا بنسبة 10 بالمئة منه حتى اليوم، وفقدت فلسطين هويتها كدولة في الجمع العالمي وتحجّمت الدولة إلى سلطة تحكم بما سمح الاحتلال الصهيوني أن تحكم به.. ولكن المقاومة استمرت بفصائل أخرى قدّمت الشهداء والجرحى من القادة والمجاهدين وما تزال، وبسيل من الأسرى المضحّين وبشعب صامد يحصّن المسيرة ويرفد المقاومة.
كان يُقدّر بلزلزال السياسي – العسكري الذي وقع في لبنان العام 1982 مع الاجتياح، أن يسمح للصهاينة أن يطبقوا سيطرتهم، ولكنهم اضطروا بفعل المقاومة العسكرية والأمنية المتطوّرة على مدى 18 عاماً إلى الانسحاب عام 2000 دون قيد أو شرط، وخلال هذه الأعوام كان العناق قد توثق بحبال تجاوزت الحدود ليصبح الاحتلال بين المطرقة اللبنانية والسندان الفلسطيني، فجاءت الانتفاضة الأولى عام 1987 والثانية عام 2000، والانتشار الشامل للعمليات المسلّحة في الضفة الغربية والأخرى الاستشهادية التي هشّمت الأمن الإسرائيلي في عمق تواجده في المدن والمستوطنات.
من الطبيعي أن تكون المقاومة الفلسطينية قد استفادت في تاريخها الحديث جداً من تجربة المقاومة في لبنان، وكان هذا واضحاً فـي قدرتها وجرأتها على خوض سبعة حروب شنّها الاحتلال على قطاع غزة، منذ العام 2006 حتى اليوم مع طوفان الأقصى، واستطاعت خلالها إفشال أهداف العدو وتحقيق الانتصار، من خلال تطوير وسائل المقاومة وأسلحتها وعتادها وتكتيكاتها، وهو الأمر الذي يجعل من المقاومة في جناحيها اللبناني والفلسطيني نموذجاً للمقاومة الكبرى و”الأستذة” الحقيقية في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني بالدرجة الأولى وفي تاريخ الصراع ضد قوى الهيمنة في العالم.
المصدر: جميل الحسيني / مناشير