لبنان ونهج المقاومة.. تاريخ من الانتصارات ورقم صعب في المعادلات الكبرى

كتب جميل الحسيني

 

شاء القدر أن يقع لبنان فوق صفيح من النار، لموقعه الجغرافي وتلازمه مع القضية العربية الاساسية فلسطين المغتصبة، هذا القدر الجغرافي والقومي والوطني، والتغول الاسرائيلي وضعوا وطنا امام حتمية الدفاع واعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي، عام 1982 والتي شكلت اهم حدث في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، واستطاعت ان تكسر المقولة حينها “العين لا تقاوم المخرز”، وانتجت التحرير الاول والانسحاب من العاصمة بيروت، في العام نفسه، وبعدها من البقاع الغربي

وبعدها الانسحاب الثاني عام 2000،

هكذا رسمت المقاومة الخارطة السياسية والمحورية للبنان، ليس فقط على مستوى الفعل العسكري والميداني وحجمه ونتائجه، وتوالي الحروب واتّساع دائرة المعارك التي شهدتها المنطقة، بل أيضاً على مستوى الدور الجوهري الذي يحتلّه لبنان بموقعه الجيوسياسي والاقتصادي والتجاري والحضاري.

وإذا ما أوغلنا في تحديد الدور والأثر لوجدنا أن لبنان وقبل رسم حدوده الجغرافية وإعلان ما سمّي “دولة لبنان الكبير” في العام 1920، مثّل قطب الرحى لحركات المقاومة ضد الاحتلالات المتوالية منذ عهد الصراع بين السلطنة العثمانية وكل من فرنسا وبريطانيا مروراً بتكريس إعلان الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة في العام 1948 وصولاً إلى اليوم مع التوحّش الأمريكي في مد أذرع الهيمنة على العالم.

لا يجدر أن نغفل ما شهدته تلك الحقبات من تبدّل القوى الاستعمارية الطامعة في هذا البلد الصغير الذي حيّر المؤرخين وأعجز قدرتهم على التقاط العناصر الزمنية المتحرّكة على وقع الاضطراد المتوازي في موازين المواجهة، فكلّما طوّرت قوى الاحتلال أدواتها وأساليبها وقدراتها نجد قوى المقاومة وقد ابتدعت أطواراً تتماهى مع الواقع الذي تفرضه المواجهة في أبعادها الميدانية المختلفة، وهنا يكمن الإبداع في الفعل وكتابة التاريخ.

لطالما تعرّضت المقاومة لحملات التشويه والتحريض، تبعاً للأهداف والخلفيات التي تتحرّك على وقعها الجهات القائمة بهذا الحملات، ومنها ما وطّن قناعته ثقافياً بأن المقاومة ليست ضرورة كنهج ويطرح التسوية السياسية سبيلاً لاندماج البلد في سياق المنظومة العالمية الكبرى، وإلحاق مواطنيه في بوتقة السواد الأعظم من البشر اللاهثين وراء “الاستقرار” المعيشي كأولوية في الحياة، فلا معنى – برأيهم – لأي سيادة أو استقلال في ظل الجوع والعوز والفقر، ومنها ما هو مرتبط ارتهاناً بالدول والقوى التي تريد للبنان أن يكون تابعاً ومقيّداً بسياساته وقراراته وخيراته وثرواته لما تقرّره عواصم القرار العالمية.

ومهما يكن من مسوّغات يسوّقها هؤلاء، على مستوى الثقافة والقناعة أو على مستوى العمالة والارتهان، لرفض المقاومة، فقد فاتهم عنصر أساسي يدخل في جوهر ديمومة الأمم الشعوب ألا وهي السيادة والحرية والقرار المستقل الذي رفعت وترفع المقاومة رايته كبعد أخلاقي ومعنوي بالدرجة الأولى، فضلاً عمّا تفضي إليه هذه القيم من نتائج على مستوى الاقتدار والانماء والتطوّر وتأمين الحماية اللازمة للثروات البشرية والحيوية والطبيعية لأي بلد، وهذا ما يميّز المقاومة والمؤمنين بها على مستوى الاعتقاد والفعل، وتدفعها في سبيل تحقيق ذلك إلى التضحية وتحمّل ضريبة تكريس الوجود في الأرواح والممتلكات.

أنبت لبنان الصغير بحدوده، الكبير والمتّسع بدوره وأثره وفعاليته، الكثير من حركات المقاومة وسطعت صفحات تاريخه بكبريات النجوم المضيئة التي حملت هوية شهدائه ومضحّيه دفاعاً عن الأرض والكرامة، وتعزّز الأثر لارتباطه العضوي مع محيطه العربي والإسلامي عموماً ومحيطه القريب خصوصاً لالتصاق حدوده مع كل من سوريا وفلسطين، فغدت المعركة واحدة في سياقها الطبيعي، على الرغم من أن غالبية الحكومات التي تشكّلت بعد رحيل الانتداب الفرنسي كانت تعتمد سياسة عدم الحياد في الصراع الأكبر، كما دأب الحكومات والأنظمة العربية والاسلامية اليوم في ما يحصل من إرهاب أمريكي – إسرائيلي على أرض قطاع غزة الفلسطيني، ولعلّ هذا ما يعطي المقاومة – كفكر ونهج وممارسة – فرادة وجودها في عدم ارتباطها بالأنظمة التي تفترض على نفسها الدخول في معمعة الحسابات السياسية التي غالباً ما تتضمن تنازلات في المواقف.

ولئن أردنا الذهاب إلى استعراض النماذج المقاوِمة – مثالاً لا حصراً – لازدحمت الأسماء والعناوين بدءاً من القرن السابع عشر مع عميد عشائر جبل عامل الشيخ ناصيف النصار مروراً بالثائر العروبي السيد عبد الحسين شرف الدين ومؤتمر الحجير عام 1920 – الذي تزامن مع ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال الانكليزي- ومن كان معه من المقاومين الذين ظلمهم التاريخ اللبناني كأدهم خنجر الصعبي وصادق حمزة الفاعور ومحمود بزي وحسن مهنّا وأحمد بوزكلي وعلي جعفر والشيخ أحمد مريود الحوراني، وثورة سوريا الكبرى مع سلطان باشا الأطرش، وصولاً إلى حرب الاستقلال الحقيقي مع سعيد فخر الدين بطل معركة بشامون وحسن عبد الساتر بطل العلم اللبناني والملازم محمد زغيب الذي قاتل معه معروف سعد جنباً إلى جنب في معركة المالكية.

هذه الثلة من الأبطال وغيرها من الأسماء الكبيرة التي حفرت تاريخ لبنان استطالت إلى عصر المقاومة فيما بعد لتكتب مع أحزاب جبهة المقاومة اللبنانية فصلاً أساسياً في مسيرة التحرير والاستقلال وانطلق الشيوعي والقومي والبعثي والناصري والاشتراكي وحركة أمل جنباً إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية ليشكّلوا جبهة نضال واحدة ضد الاحتلال ولا سيما خلال اجتياح العامين 1978 و1982، في وقت كان لبنان الدولة والحكم والقرار أسير تجاذبات داخلية وخارجية بعدما أرهقته تداعيات الحرب الأهلية التي أجّجت نارها الإملاءات الأمريكية من جهة والتدخّلات الإسرائيلية عبر بعض أتباعها في الداخل من جهة أخرى.

استمرت المقاومة وأثبتت نجاعة دورها مع انطلاق حزب الله الذي اعتمد النهج نفسه في المقاومة مؤسساً على القواعد التي أرستها أحزاب المقاومة على مستوى النتائج الميدانية كما على مستوى الوجدان الشعبي، فقدّمت كبار قادتها شهداء من الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي إلى الحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين وقوافل المئات من الشهداء وآلاف الجرحى حتى تحقق التحرير في العام 2000 والانتصار الاستراتيجي في العام 2006، ومع هذا الإرث النضالي المقاوم المتحرّك والمتطّور لم يعد لبنان ذلك البلد الصغير الذي يُملى عليه ما يقرر ويفعل، بل أصبح بجيشه وشعبه ومقاومته صاحب المبادرة ومستقلّ القرار والرقم الصعب في المعادلات الكبرى.

المصدر: موقع مناشير