وأخيرًا، إتخذَ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قرار فكّ “الاعتكافِ الباريسي” بعودته مساء أمس الجمعة على أن يكون بيت الوسط مكانًا مفترضًا لـ”حجر صحي” لايت خالٍ من السياسة.
السؤال هنا: هل سيلتزم رئيس تيار المستقبل بالمدة الإلزامية للحجز الصحي المنزلي المطبقة على الوافدين من الخارج ومدتها 14 يومًا أم سيتسلَّل من خلفِ الخطوطِ ويشنّ هجمات ذات لونٍ سياسيٍّ بعدما أدركَ أخيرًا أن “الهواء الباريسي” لم يعد يلائمه؟!
المشكلة ليست هنا فقط، أكثر ما يحز في قلب الرئيس الحريري أن عودته إلى بيروت كانت مقرونة بقرار سماحٍ بهبوط طائرته “الخاصة” على مدرج المطار يصدر عن رئيس الحكومة حسان دياب، أي أنه عمليًا أوكل قرار السماح بعودته إلى خصمٍ سياسيٍّ مفترض، عملًا بقرار إغلاق المطار الصادر عن الحكومة، والسماح فقط بهبوط طائرات محددة يحتاج الى إذن مسبق من دياب.. هنا، هل منحَ دياب الإذن للحريري وسمحَ له بالهبوط؟!
من حيث المبدأ، لم يقف دياب حجر عثرة أمام الحريري أو طائرته رغم أن الأخير إنضم حديثًا إلى “جوقة” الهجوم على رئيس مجلس الوزراء. ليس من أخلاقيات دياب “قطع الطرق” لو أن الآخرين يمتهنوها. “أهلًا وسهلًا به مغتربًا يريد العودة إلى بلاده، لكن يجب أن يُراعيَ الشروط الصحية في الحجر”. زبدة الكلام: “الحريري ممنوع من اللقاءات وجهًا لوجه، والرك على جهاز الهاتف مطلوبٌ!”.
على أن عودتهُ كانت مفعمة تجاوزات، فالطائرة التي قدِمَ على متنها أقلّت 10 رُكّاب من الحاشية والمفرّبين لم يثبت قطعاً أن أحداً منهم يحمل شهادة فحص PCR بخلاف ما تفرضه وزارة الصحة على الوافدين، وهذه تُحسب على الحريري.
على الأرجح، قرار العودة غير مرتبط بالخشية من تفاقم الظروف نتيجة تفشي وباء “كورونا” في الربوع الفرنسية، بل يتصل بالظروف الداخلية التي فاقمت من معاناة “الرعية السُنية” التي أصبحت تجد نفسها يتيمة، فلا أولياء أمر الطائفة من الساسة ينظرون إلى حالها ولا من أعطتهم أصواتها، بل ثمة من يحذر من أن الطائفة الآن باتت تقف على بركة من الرمال المتحركة لا أحد يعلم متى “تبلع” زعاماتها.
إذًا يعود الحريري في ظروفٍ حساسة جدًا وهمّه العودة إلى الساحة مجدداً وإلحاق نفسه وتياره وحجز مكان على موجة “كورونا” التي تستغلها الأحزاب كافة على أكمل وجه كباب من أجل إستعادة جزءٍ مما خسرته شعبيًا.
يقع تيار المستقبل من حيث المواكبة والتحضير لمواجهة كورونا في قعر اللائحة. ففي وقتٍ أنجز الكثير من أقرانه خططهم باكرًا وبات لكلّ حزبٍ فريق عمل “صحي – إجتماعي” ومواقعَ للحجر، لم يستطع “المستقبل” إنجاز أكثر من موقع صحي في محافظة واحدة، عكار، فيما البقية تُركت إلى مصيرها.
ثمة من ينقل خشية الحريري من أن يتحول وباء “كورونا” إلى برنامج إستثمار جيد لبعض المحيطين به على غرار تجارب أخرى، فتتبخر الاموال وتذهب، وثمة من يلقي بلائمة التأخير على عدم وجود موارد مالية تكفي لدى التيار الغارق في أزماته المالية، فيلجأ إلى سبل المكافحة باللحم الحي وبركة الاجاويد وبما يتيسر من مساعدات أوكلت غالبيتها إلى النواب على قاعدة “لا مركزية”.
هناك سببٌ آخر يتردّد أنه دفع الحريري إلى تسريع عودته إلى بيروت رغم جائحة “كورونا” يتصل بحضور شقيقه “بهاء” الذي بات يصنف كغريم سياسي غير تقليدي. الإعتقاد السائد، أن بهاء ينجح في الاستثمار الشعبي داخل قواعد المستقبل مستغلًا غياب “التيار الأزرق” وحضور شقيقه. على هذا النحو، بات يُمكن للشقيق الأكبر أن يؤسِّسَ لحالةٍ على ظهر تيار المستقبل وهو أمرٌ لا يستسيغه سعد وفريقه، الذي توصل إلى قناعة أن المواجهة ضمن الحقل “الازرق” والسُني عامةً باتت أمرًا لا بد منه.
من الواضح أن بهاء يعمل بوتيرة متسارعة وتركيزه ينصبّ على تهيئة البيئة للانتخابات النيابية المقبلة معتقدًا أنه على الأقل سيوجه ضربة “رقمية” لشقيقه تضعه على مسار المنافسة الشرعية، ولما لا قد تأخذه الأحلام أبعد من ذلك مع إمكانية أن يضع “القدم” لمحسوبين عليه في ساحة النجمة.. وهو مشروعٌ طويلٌ.
“الشيخ سعد” يعي ذلك جيدًا بعد أن وُضِعَ في صورته. عودته “الباكرة” إلى بيروت ترتبط بجزءٍ منها بهذا الجو. هو، منذ الخطاب الأخير في ذكرى والده الشهيد في بيت الوسط ألمحَ إلى أنه في صدد إخراج عدّة الإنتخابات باكرًا والشروع في التنقيب، وهذا يتطلب جهودًا سواء في الناحية الشعبية أو السياسية.
ما يؤكد هذا التوجه الإتصال الذي أجراه مؤخرًا من منزله الباريسي مع دائرة ضيقة من شخصيات الطائفة منهم رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، على بركة إنعقاد لقاء الشخصيات الطرابلسية. إتصالٌ لا يُمكن فصله عن الاجواء الانتخابية التي بدأ رئيس تيار المستقبل يعدّ عدتها منذ الآن.
ثمة جانب آخر يجب أن تلحظه العودة، يتصل بمحاولة جمع ما فرقته الصراعات والمناكفات والمصالح السياسية الضيقة داخل التيار الواحد. مهمته الأولى الحد من الإنزلاق الجنوني في العلاقة بين عمته بهية ورئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة بعدما ظهر أنها مرشحة لبلوغ درجة مواجهة أقصى تبدو صيدا مسرحها، والثاني “فرملة” اندفاعة السنيورة بإتجاه الإستثمار في بيئة سياسية من رحم “المستقبل”، قد تتطور لاحقًا وتنفصل إلى جسم آخر، حريري الهوى، يخشى “سعد” من تكاثره داخل البيئة السنية.
المصدر:”ليبانون ديبايت”