وجه المفتي محمد رشيد قباني نداء الى اللبنانيين، لتكافل المجتمع مع بعضه وبذل الجهود المشتركة للخروج من الازمات الراهنة. وجاء في النداء:
“الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد رسول الله الذي حث الناس على التعاون بينهم لمساعدة ذوي الحاجة فيهم فقال: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وبعد:
أيها اللبنانيون، أتوجه اليوم إليكم ووطننا لبنان يمر بمجموعة من الأزمات منها المحلية كالمال والاقتصاد ومنها العالمية كالوباء المنتشر الذي يحصد الكثير من الأرواح، وفي ظل هذه الأزمات هناك الآلاف من إخوانكم اللبنانيين من أقاربكم وجيرانكم وأبناء أحيائكم ومدنكم وقراكم محتاجون إلى مد يد العون إليهم، فأناشدكم اليوم وأسألكم من يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم.
نعم إن مد يد العون اليوم أيها اللبنانيون إلى العائلات المحتاجة بينكم في وطننا لبنان بفعل الأزمات الراهنة هو قرض لله عز وجل يجنيه فاعل الخير عطاء من الله، فيبارك الله له في ماله في الدنيا ويضاعفه له أضعافا كثيرة وله في الآخرة أجر عظيم على ما بذل وأعطى ونفع.
Uولا تخفى عليكم مآسي تردي الوضع المالي في لبنان ثم انتشار الوباء الواسع الانتشار في بلاد العالم والتدابير الوقائية الضرورية التي منعتهم من تحصيل قوت عيالهم لحجزهم في بيوتهم، فهناك أسر لا تستطيع دفع إيجار منازلها وأسر لا تجد قوتها وقوت أولادها ولا ثمن علاج أو دواء في ظروف صعبة ومحزنة تمر بها آلاف العائلات اليوم في لبنان وعلينا الأخذ بيدهم جميعا إنقاذا لهم كي تتواصل مسيرة الحياة.
وقد أوصى الله بالجار فقال في القرآن الكريم: “والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب”، وأوصى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بإعانة الجار فقال: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”، وقال:”ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”. وليس المراد بقوله “ما آمن بي” نفي الإيمان مطلقا عمن يفعل ذلك، بل نفي كمال الإيمان في نفسه، وقال أيضا: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره”، وقال: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”.
وقال رجل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت إلى جاري أو أسأت؟، فقال له النبي: “إذا سمعت جيرانك يقولون: أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت”، ودعا نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تعاون الناس مع بعضهم لمساعدة ذوي الحاجة فقال: “إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، وقال: “من لا يرحم لا يرحم”، وقال: “إنما يرحم الله من عباده الرحماء”.
واعلموا أيها اللبنانيون، أنه لا حياة لمجتمع يعيش متفككا، والأزمات والكوارث تتطلب جهودا مشتركة وتكافلا في المجتمع مع بعضه للخروج من الأزمات وضائقات الأحوال، واعلموا جيدا أن الأزمات الراهنة سوف تشتد مع مرور الأيام وأننا مقبلون على أيام أشد من الأيام التي نعيشها اليوم والله أعلم ولا أفق أو زمن محدد لنهايتها.
وإنني لأحزن حين أسمع أو أرى ذل الحاجة والسؤال في عيون رجال محجوزين في بيوتهم مع زوجاتهم وأطفالهم والجوع يأكل عائلاتهم والمثل الشائع يقول: والعدة تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكل، ولنتصور معا إنسانا بلغ به الجوع والخوف مبلغا شديدا كيف يكون تفكيره في ظرف عصيب ومؤلم كظروف اليوم؟ وما هو موقف كل واحد فينا لو كان مكان هذا الرجل أو تلك المرأة وأولئك الأولاد؟ فما بالكم أن مثل هؤلاء الرجال والنساء والأطفال اليوم في وطننا لبنان مئات آلاف الناس الذين يعانون ذل الحاجة والسؤال؟.
أيها الإخوة، يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “أنزلوا الناس منازلهم”، ولعل ذلك يكون أكثر وجوبا في أوقات الأزمات بالوقوف عند حاجات المحتاجين والاهتمام بأمورهم ورعاية مشاعرهم، والمواطن اللبناني الذي تقلبت ظروفه بفعل الأزمات بحاجة إلى من يمد له يد العون والمساعدة حتى يقدر على تجاوز هذا الظرف العصيب وتلك المرحلة العصيبة، وما أعظم ذنب من يرى غيره في حاجة ألمت به ولا يعمل لإعانته وهو قادر على ذلك أو أن يتعمد حجب خيره عنه، وفي ذلك يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ” ما من إمام (أي ما من مسؤول) يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته”.
أيها اللبنانيون، لقد بات من الضرورة القصوى والأهمية الفائقة أن يظهر أثر مفيد من الإنسان إلى جانب أخيه الإنسان في وقت الأزمات والصعوبات، من خلال إغاثة الملهوفين وإعانة المكروبين من عائلات باتت حياتها منكوبة، ليظهر حب الخير بين الناس على اختلاف دون تمييز بين طوائفهم وتنوعهم، وإن لم يحقق اللبنانيون اليوم تكافلهم في زمن الوباء والحاجة، فإنهم لن يستطيعوا أن يثبتوا إرادة وحدة عيشهم في وطنهم من خلال تكافلهم كمجتمع موحد، ولن تتحقق المواطنة السليمة بينهم في أجيال قريبة أو بعيدة، ولن تقوم لوطنهم قائمة في زمان قريب منظور أو بعيد غير مأمون.
أيها اللبنانيون، إنها اليوم فرصتكم لكسر الجدران التي ارتفعت بينكم على مدى سنوات طوال على خلفيات سياسية أو حزبية أو مناطقية أو طائفية أو مذهبية أو علمانية انزرعت في نفوس بعضكم وفي نفوس بعض من يتغالبون على زعاماتكم بل وإلحاق الأذى بمن لا يكون طوع إرادتهم، وحب الخير للناس يجب أن لا يرتبط بجهة أو منطقة أو دين أو طائفة أو مذهب، بل يجب أن يشمل كل الناس على حد سواء، وإرشادهم إلى الخير الذي يريده الله لهم، والتكافل الاجتماعي بين الناس هو أن يكون آحاد الناس في كفالة مجموعهم، ومجموعهم في خدمة آحادهم، وأن يكون كل قادر كفيلا لغيره في مجتمعه، يمده بالخير والعون والمساعدة والنصيحة، وأن تكون القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية على نفع الناس، ودفع الأضرار عن بعضهم البعض وعن مجموعهم في البناء الاجتماعي للأمة والوطن والبلاد، فيعيش الفرد حينئذ في كفالة الجماعة، ويتعاون الجميع ويتضامنون لمؤازرة بعضهم ودفع الأذى والضرر عن وحدتهم وتعاونهم.
وإننا إذ نتابع وننظر إلى ما يجري اليوم في مختلف المناطق اللبنانية، نرى الكثير من اللبنانيين من خارج لبنان ومن داخله يبذلون الخيرات في مساعدة الناس، ولكننا نرى الأكثر منهم لا زال مقصرا أو منكفئا عن عمل الخير، وكلامي اليوم هو للجميع وللجماعات والمنظمات والهيئات بل وحتى للأفراد القادرين على الغوث ليهبوا جميعا إلى غوث المحتاجين ومد يد العون إلى بعضهم، وليساعد كل ذي سعة من كان ذا حاجة أو معسرا، وليتقاسم الناس المال والرزق والقوت مع بعضهم فإن الأيام والسنوات العجاف قادمة في وقت قريب أو بعيد إذا لم يتوقف المسئولون والناس عن المظالم بينهم على كل صعيد، ووجوب الإغاثة والتكافل واجب بين الناس في أيام الحروب والوباء والكوارث والنكبات، والرحمة لا التشفي هي الأخلاقيات الواجبة اليوم حتى مع الأخصام، وعلى كل مواطن منا حق يؤديه من أجل لقمة العيش وإنقاذ حياة أرواح الناس التي من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وخاصة في حالة الوباء الذي ينتشر اليوم في جميع قارات العالم في عقوبة جماعية لم يحدث مثلها على وجه الكرة الأرضية كلها من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها”.
وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”، أي ليذيقهم الله بعض عقاب ما كسبت أيديهم من فساد ومظالم لعلهم يتوبون ويرجعون عن فسادهم وما كسبته أيديهم، ولو أذاقهم الله كل العقاب على الذي عملوا ما ترك على ظهر الأرض منهم من أحد أبدا وفي ذلك يقول الله في القرآن الكريم: “ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا”.
أيها اللبنانيون، أوصيكم وكل لبناني بتقديم ما بوسعه من أجل إغاثة العائلات البائسة وبذل حقوق أموالكم من زكاة وصدقات وكفارات ومساعدات وإعانات ودعم إغاثي فوري مستمر ومتواصل حتى جلاء الأزمة الوبائية العامة في البلاد، خصوصا إذا كانت الحاجة ماسة إلى الطعام والدواء والعلاج، فالوضع الاجتماعي اليوم في البلاد أكثر من مأساوي في ظروف توقف معظم الأعمال وكسب لقمة العيش، والناس جميعا في المدن وضواحيها كما في القرى والأطراف أصبحوا في حال لا يعلم بها إلا الله، والأزمة والحاجة عامة لم تفرق بين منطقة وأخرى ولا طائفة وأخرى وإنسان وآخر، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: “ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير” سورة آل عمران/آية 180.
واعلموا أيها الإخوة، أن الكوارث التي تقع في بلدان العالم تحدث تغييرا في حياة الشعوب وتخلف الضحايا والمصابين، والله يبتلي الناس فيما كسبت أيديهم ويمتحنهم ليظهر لهم أيهم أحسن عملا، ويقول لهم في القرآن الكريم: “ولنبلونـــكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”.
ومن هنا يتوجب على كل واحد منا أن يتراحم ويتعاطف مع أخيه الإنسان وأن يشعر بشعوره ومعاناته ويتذكر أنه وإن اختلف مع غيره في فكر أو رأي أو معتقد فإنه يعيش معه في إنسانية عامة ووطن واحد، وعلى كل واحد منا أن ينظر في ملكوت الله وما خلق الله فيه من شيء ويعلم أن مرجعه إليه للحساب وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” وقد أمر عباده فقال لهم: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب”
أيها اللبنانيون: نحن في لبنان شعب واحد في وطن واحد اسمه لبنان فلنخرج من التفرد والاستئثار ومقارعة بعضنا، ولنتعاون في بلدنا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
وفي الختام نسأل الله تعالى السلامة لكم ولنا وللعالم من هذا الوباء والبلاء والامتحان ومن الأسقام والشدائد، وأن يحفظ الله وطننا لبنان وأبناءه جميعا من المعاصي التي تودي بهم إلى المهالك، وأن يفرج كرب المكروبين ويفك ضيق الأسرى والمسجونين والمعوزين، وأن يصرف عنا وعنهم وعن العالم هذا الوباء لعلهم يرجعون، وأن يوفقنا وإياكم لتحقيق مقاصد الدين وغوث المحتاجين ولما فيه دائما رضا الله رب العالمين، ونسأل الله أيضا أن يجزي المحسنين والعاملين على أعمال البر والخير خير الجزاء في الدنيا والآخرة، وهو القائل في القرآن الكريم: “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم”، ويقول فيه أيضا: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين”.
هذه وصيتي لكم بما يرضي الله تعالى، وما كنت لأوجه هذا النداء لكم لولا الوجع الكبير الذي يفتك باللبنانيين وعائلاتهم وأبنائهم وأطفالهم، وليس لهم من معين غير الله، فآتوهم من مال الله الذي آتاكم، وهذا تذكير لكم ذكرى لكم لعل الذكرى تنفع المؤمنين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو رب العرش العظيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
المصدر:”Mtv”