كتب منير الربيع: قبل انفجار الأزمة الاقتصادية، وانتشار وباء كورونا، كان هناك في لبنان من يعيش ترفاً سياسياً، ويحاول مزجه بأبعاد فكرية تنسجم مع طموحاته وتطلّعاته.
نشوة فئتي التسوية
تجلّى ذلك الترف في نشوة انتصار ثنائية التسوية الرئاسية، التي لم تكن أكثر من اتفاق سياسي محدود، لكن بتشعبات وتشابكات اقتصادية – اجتماعية كثيرة، تجمعها رؤية مشتركة للدولة ومؤسساتها: المحاصصة في كل شيء.
وجه من ذينك الترف ونشوة الانتصار، تكرس في محطات عدة حققت فيها التسوية الثنائية نجاحاً.
وتنقسم تلك الثنائية إلى فئتين: الأولى ليبرالية إلى حدّ بعيد. ونجاح أي نموذج اقتصادي في رؤيتها يقوم على خصخصة المرافق العامة والمنتجة، من المطار والكهرباء والاتصالات، وصولاً إلى خصخصة البيئة ربما.
والفئة لثانية ينطوي تفكيرها على اعتبار لبنان قطاعاً مصرفياً ومالياً وشركات ومؤسسات مالية واقتصادية منتجة، والمطلوب “تركيب” دولة ونظام سياسي له. ولبنان هذا، أي “المصرف والشركة والمعبر والترانزيت”، هو لبنان أصحاب رؤوس الأموال المسيحيين الذين “خُلق لبنان الكبير لأجلهم”.
الخصخصة حرباً وتسوية
قبل التوافق بين طرفي الثنائية، كان الصراع بينهما محموماً. الطرف الثاني يعيب على الأول إصراره على الخصخصة، ويتهمه بإفساد الدولة والمجتمع، وصولاً إلى إفلاسهما في سبيل الخصخصة. كانت غاية المعركة الوصول إلى السلطة. وبعد وصول الطرف الثاني إليها بواسطة الطرف الأول، سلكت الثنائية طريقها في المضي بوئام على طريق الخصخصة.
تجلّى ذلك في ملفات متعددة. أبرزها الكهرباء، التي لم ولن تجد لها حلّاً إلا بمعجزة، سواء باعتماد خيار البواخر، أو التذرع بالنزاع المذهبي الطائفي المناطقي لبناء المعامل.
إلى جانب الكهرباء كان هناك ملف الاتصالات، وصولاً إلى الهندسات المالية المشتركة التي استفاد منها الطرفان. وعلى هامشيهما استفادت قوى سياسية أخرى مختلفة. والذهاب إلى منتديات ومؤتمرات دولية، على رأسها مؤتمر “سيدر” طلباً للمساعدات، لم يكن بعيداًعن فكرة الخصخصة من بوابة البنى التحتية.
المنتصر والإفلاس
صدامات سياسية إقليمية ودولية انعكست محلياً، فحالت دون استكمال المشروع، فتوقف وتعرقل، وكذلك مؤتمر “سيدر”. وفي الأثناء التقت تداعيات الصدام الدولي والإقليمي مع انفجار ثورة 17 تشرين في وجه القوى السياسية اللبنانية كلها. فأسهم ذلك في خلخلة ثنائية التسوية، ثم أسقطها.
خرج منها طرف ضعيف وأصبح خارج تركيبة الحكومة الجديدة. الطرف الثاني احتفظ بقوته وتمكن من تشكيل حكومته والتحكم بها. أما المشروع نفسه فلا يزال مستمراً، في ضوء الأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة.
الأزمة هذه لا يبدو أن هناك أفقاً لحلّها، إلا بالرهان على معجزة. الخطط التي قدمتها الحكومة لم تقدم أية بقعة ضوء. الاقتراحات كلها سقطت حتّى الآن. حتى الهيركات سقط، لأن ليس من أموال أساساً للاقتطاع منها. الودائع أرقام على الورق. والدولة تتصرف مع المصارف على قاعدة: “لكم معنا، لكن ليس معنا لنعطيكم”. والقاعدة هذه تسري على العلاقة بين المصارف والمودعين.
بيع أملاك الدولة
هنا يبرز خيار الطرف الأول في التسوية المنهارة: الخصخصة. وهي في ظل الإفلاس الراهن تعني تسييل ممتلكات الدولة اللبنانية. أي طرح أملاكها للبيع لسد ديونها وترتيب أوضاعها.
هذا الخيار سيغّلف بشعارات برّاقة كثيرة: حماية الناس والمودعين، والحرص على وقف الانهيار. خيار بيع أملاك الدولة ومرافقها وخصخصتها، هو الأوحد في ظل عدم الاتفاق على خطّة وتقديمها لصندوق النقد الدولي، الذي استجدت لديه مشكلات مالية هائلة بسبب أزمة كورونا. وهو لن يكون قادراً على مساعدة لبنان كما كان قبل تفشي الوباء العالمي.
الأزمة مستمرة. الليرة ماضية في انهيارها، والدولار ماض في ارتفاعه. مصرف لبنان بعد تحريره أموال أصغر صغار المودعين، سيمضي في إصدار تعاميم جديدة تحرر أموال من لديهم أكثر من خمسة ملايين أو أكثر من 3 آلاف دولار. وربما سيصدر أيضاً تعاميم أخرى مكمّلة للتعميمين السابقين. وهذا سيؤدي إلى تضخم كبير في السوق المالية، مقابل زيادة الطلب على الدولار الذي سيحلق إلى ذروة جديدة.
المصدر:”المدن”