شابة مصابة بالأرق.. تُحادث عمال النفايات في النبطية

إنّها الرابعة إلا ربع فجرًا. لا أزال جالسة عل حافّة أريكتي. الأرق يفقدني الإحساس بالوقت، يضخم الوقت في رأسي وحواسي.

أسمع في السكون الخارجي صوت سيارة. أحشر رأسي بين ستارتي النافذة، أسترق النظر. شاحنة تمّر على طريق فرعي وراء المنزل. ضوء الشاحنة يبعث في نفسي إحساساً بالتعاطف والغضب.

امتنان وتعاطف حزين
على مؤخرّة شاحنة النفايات عاملان يتمسكّان بها تمسّك أي مواطن لبناني كريم بلقمة العيش في هذا البلد الذي يتأرجح مستقبله تأرجح شاحنة النفايات هذه على الطريق الفرعي خلف بيتي.

أُغلقت معظم المؤسسات في منطقة النبطية، وتوقّف العمل على خدمة الديلفري فقط، بسبب التعبئة العامّة المفروضة جرّاء تفشّي كورونا. لكن عمّال النظافة لا زالوا يصلون في الرابعة إلا ربع من كل فجر. يفرغون بأيديهم في صندوق الشاحنة الكبير حاويات قمامة منازلنا، فيما أنا وسواي نختبئ من الفيروس.

أشعر بامتنان كبير لهؤلاء الكادحين. امتنان لا يخلو من تعاطف حزين.

فوزي حوماني عامل نظافة من بلدة حاروف. الإجراءات الوقائية التي يمارسها ضد فيروس كورونا، لا تختلف كثيراً عما اعتاد ممارسته من قبل في عمله.

يخبرني فوزي أنّه يتبّع الإجراءات التي أعلنتها وزارة الصحة. يرتدي الكمامة والقفّازات التي يبدلّها كل 4 ساعات أثناء دوام عمله، الذي يمتد من الثامنة صباحًا حتى الثانية ما بعد الظهر.

قبل عودته إلى منزله يبدّل فوزي ملابسه التي ارتداها أثناء دوام عمله. ويوضّبها في كيس ليغسلها في المنزل. لا مخاوف لدى فوزي من كورونا. فهو لم يعد يستقبل ضيوفاً، ويلتزم الحجر المنزلي مع أفراد عائلته.

مخاوف فوزي في مكان آخر: على معيشته، في جيبه التي لا يدخلها آخر الشهر سوى 200 ألف أو 300 ألف ليرة لبنانية. فالحكومة اللبنانية قلّصت مستحقاته ومستحقات أمثاله شبه المعدمين، بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعانيها لبنان.

منذ أيلول الماضي لم يحصل فوزي – وكذلك زملاؤه في العمل – على راتبه كاملًا. لذا تكدسّت عليه الديون للصيدليّات التي يحصل منها على أدويته. فهو يعاني من وضع صحّي دائم يحتاج إلى علاج دائم.

وبسبب إقفال المؤسسات الحكوميّة يتعذّر على فوزي اليوم الاستفادة من الضمان الاجتماعي، كغيره من المواطنين. وهذا يزيد من وطأة الأزمة الاقتصادية على قلبه المتعب.

يوسف كلاكش هو المسؤول عن توزيع رواتب ومستحقّات عمّال النظافة. يقول: الأزمة الاقتصادية تسببت بتعثر في دفع مستحقّات العمّال. ويؤكد أنّ عمّال النظافة لم يحصلوا على راتبهم كاملًا منذ أكثر من شهرين. يحصلون على جزء منه فقط. لكنه يختم كلامه: “حقوقهم محفوظة عند الدولة”.

أي ذوق هذا؟!
في تمام التاسعة ليلًا أخرج لأرمي قمامتي. لا حركة في الشارع، لاصوت. ضوء القمر يبعث فيّ حزنًا لا أعلم سببه. لا، ليس كورونا ولا الحجر.
لا أعلم مصدر هذا الحزن. قد يكون كآبة أكثر مما هو حزن. لا أدري. أصل إلى الحاوية. بعض الأكياس ملقاة على الأرض. وما خرج منها من فضلات وتبعثر على الإسفلت، يبعث في ذاكرتي أصوات العمال حين حادثتهم عن أحوالهم ومعيشتهم. 

أحدهم أرسل لي صورة شخص في حرم الكعبة، معلقًا على الصورة: “انظري، وحده عامل النظافة استطاع الصلاة في الحرم، بينما مُنع الجميع من دخوله”. آخر قال: “إنها وظيفتي. أصبحت لدينا مناعة من كورونا وغيره”.

أرمي كيس قمامتي في الحاوية، وأتساءل: أولئك الذين يرمون على الأرض أكياس نفاياتهم غير المقفلة، ويرون هذه الفظاعة التي تركتها أيديهم إلى جانب حاوية غير ممتلئة؛ أي مناعة لديهم ضد حس المسؤولية؟ أي مناعة ضد الذوق؟  

المصدر: “المدن”